د. عبد الرؤوف سنو: اللبنانيون لم يتعلموا من الحرب!

نشر في 02-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 02-09-2014 | 00:01
No Image Caption
•الباحث والمؤرخ والأستاذ الجامعي
عندما وضع د. عبد الرؤوف سنو كتابه {حرب لبنان} (2008) لم يكن في باله إصدار كتاب ثانٍ عن المرحلة التالية في لبنان، باعتبار أن اللبنانيين لا بد أن يكونوا اتعظوا من عبر الماضي، لكن الممارسات والوقائع على الأرض لا سيما الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة والانعكاسات على الساحة اللبنانية، في ظل الاختلافات الجوهرية حول حاضر لبنان وهويته ومستقبله، وارتفاع منسوب الطائفية بدل العمل على إلغائها... هذه العوامل كافة دفعته إلى إصدار كتابه الجديد {لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف} (منشورات المعهد الألماني للأبحاث الشرقية)}، باحثاً فيه ومحللاً ومؤرخاً أسباب آفة الطائفية والسبل للخروج منها، محذراً من تفاقمها إلى حد قد يؤدي إلى ضياع الوطن.

حول جديده وإشكاليات التعايش والسيادة وأدوار الخارج كان الحوار التالي معه.

مرض الطائفية الذي يضرب لبنان ازداد بعد اتفاق الطائف، أو بالأحرى  بعد وقوعه في دوامة الجيوسياسية الإقليمية فهل هذا الواقع أحد دوافعك لوضع الكتاب؟

نعم، سرى الاعتقاد الحذر بعد اتفاق الطائف بأن لبنان من الممكن أن ينتقل إلى دولة حديثة {خالية} من الطائفية، بخاصة أن الاتفاق لحظ إلغاء الطائفية السياسية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن إلغاء الطائفية السياسية بجرة قلم لارتباطها بالطائفية المجتمعية، ولأن اللبنانيين كانوا لا يزالون، ولا يزالون يعيشون في حيز جغرافي طائفي لا وطن تحوّل إلى حيز مذهبي. وبدلاً من أن يتعلم اللبنانيون دروساً من الحرب الداخلية بين الأعوام 1975 و1990، بأن التقاتل يجلب الويلات على الوطن، إلا أنهم زادوا من انغماسهم في الطائفية. وقد غذّى الخارج السوري الطائفية السياسية، بدلاً من العمل على إلغائها، لأن مصلحته  وبقاءه في لبنان ارتبطا بتعميق النزاع الطائفي وضرب الطوائف والمذاهب بعضها ببعض. فلو أُلغيت الطائفية السياسية، افتراضاً، لزالت معظم الخلافات التي تفرق بين اللبنانيين. من هنا، كان يهم السوري أن يتعمق الشرخ الطائفي في لبنان، كي لا يتوحد اللبنانيون ضده.

واليوم تغذي إيران الصراع المذهبي، حيث انتقلنا إلى مرحلة متقدمة من الطائفية. من هنا، أردت أن أدرس المرحلة بين 1990 و2011 لأعرف الأسباب الدقيقة والعميقة حول عدم تمكن اللبنانيين من الخروج من دوامة الطائفية السياسية ومن الاستتباع للخارج.

البلدان المجاورة تتصارع لتطبيق الديمقراطية،  فيما هي من صلب نظامنا ولا نحسن تطبيقها، فنختلف على  انتخاب رئيس جمهورية ويمدد المجلس النيابي لنفسه، هل تعتبر أن لبنان قاصر وبحاجة إلى وصاية خارجية لتطبيق الديمقراطية؟

لم يكن لبنان ديمقراطياً في أي وقت من الأوقات. صحيح أن الحريات العامة وحرية الإعلام والقول والتعبير كانت أفضل مما هي عليه في البلدان العربية، إلا أن لبنان لم يعرف الديمقراطية التي نراها في الغرب. لقد طور لبنان نظاماً قام على {ديمقراطية توافقية}، أي أن الطوائف تتقاسم السلطة والقرارات المصيرية على أساس توافقي، من دون تغليب رأي فريق طائفي على آخر طائفي، وكذلك أن يكون التمثيل في الحكم والسلطة على أساس نسبي. لكن هذا النظام الذي أسماه اللبنانيون تكاذباً {الديمقراطية التوافقية}، أدى إلى أزمات، ما أن يتعطل التوافق بين الطوائف حول قضية داخلية. وفي كثير من الأحيان حول الخارج الذي لا يزال يتلاعب بالطوائف لصالحه. وقد اثبت اللبنانيون، عن جهل، أو عن وعي، أنهم أدوات بأيدي الخارج، ذلك أنهم لم يدافعوا ولا لمرة واحدة عن مصالح لبنان الوطنية والحيوية والإستراتيجية. فارتموا مرة بأيدي الإسرائيليين، ومرات ومرات بأيدي السوريين والإيرانيين. إن مقولة {السين السين} التي روجها الرئيس بري، أي أن تتوافق سورية والسعودية على حل الأزمة اللبنانية بالتقريب بين اللبنانيين، هي معيبة بحق اللبنانيين، فذلك يعني، أن اللبنانيين قاصرون ويحتاجون إلى وصاية خارجية. وظهر هذا خلال الوجود السوري في لبنان وبعده، وكذلك في علاقة حزب الله بإيران.

صحيح أن تيار المستقبل يميل إلى السعودية، إلا أن المملكة لا يمكن اعتبارها دولة تضر بمصالح اللبنانيين. ولا أريد أن استعيد التاريخ للدليل على ذلك، سوى بالإشارة إلى المليارات الأربعة التي وهبها خادم الحرمين الشريفين إلى لبنان لدعم جيشه.

أخيراً، إن عدم انتخاب النواب اللبنانيين رئيساً للجمهورية، حتى ولو كان مقلّص الصلاحيات، معيب بحق لبنان، وبحق {نواب الأمة}. إن عدم انتخاب رئيس للجمهورية يدخل في اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط بين إيران والولايات المتحدة. وعندما يتم التوافق بين طهران وواشنطن على ملف الأولى النووي، ستتسهل الأمور في لبنان.

تقول في كتابك إن أخطر ما يواجه لبنان جعله ساحة مستباحة  للخارج واستقواء الطوائف بالخارج على بعضها البعض. كيف  السبيل برأيك إلى إخراج لبنان من هذه الدوامة؟ وهل إعلان بعبدا مثلاً أحد هذه السبل؟

هناك ثلاثة مسارات للبنان المستقبل: إما أن يُبقي على نظامه الطائفي السياسي كما هو عليه الآن، لكن مع الاستعداد لحرب جديدة كل عقد أو عقدين من الزمن؛ أو الدخول في الفدرالية التي أعتقد أن اللبنانيين لا يمتلكون ثقافة التعايش في ظلها لخلافاتهم التي ستظهر حول توزيع الثروات، وتحديد الحدود، وأوضاع الأقليات، وعلى السياستين الدفاعية والخارجية (هما في يد السلطة المركزية في الدولة الفدرالية، وكثير من اللبنانيين يجهلون ذلك)، فسينتج عنها تقسيم لبنان. أما الحل الثالث، فهو الدخول في الدولة المدنية. وهو حل صعب جداً اليوم في ظل التناحر بين الطوائف والمذاهب. فاعتماد الدولة المدنية يتطلب موافقة جماعية قبل التفاهم على الخطوات، وهذا غير متوافر اليوم في لبنان، وربما في المدى المنظور.

في ظل لبنان الدولة المركزية، فإن حزب الله يتدخل في سورية ويقوم بعلاقاته الخارجية مع إيران، كما يشاء، ويتلقى منها السلاح والأموال والأوامر. فإذا أصبح لبنان فدرالياً، فكيف ستتصرف الحكومة الفدرالية المركزية تجاه حزب يحارب في الخارج، ويتلقى أوامره من الخارج؟ إن عدم التزام حزب الله باتفاق بعبدا دليل على استقلاليته في قراره السياسي، وبأنه لا ينظر بعين الاعتبار لوجود الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وفي مقدمها الجيش اللبناني. وهو يترك لبنان ينهار من دون رئيس للجمهورية، وفي ظل مجلس نيابي يُجدد له، لأن الحزب رهن لبنان لمصالح إيران وعلاقاتها بالخارج الأميركي.

إعادة قراءة  مستجدات الطائفية السياسية المذهبية والمجتمعية، التدخل السوري في لبنان والحرب الإسرائيلية على لبنان 2006 لبنان الطوائف بين 1990 و2011 أبرز محاور الكتاب، كيف قاربت هذه القضايا بموضوعية من دون التأثر بالبيئة والمحيط؟

لا اريد أن امتدح نفسي ومنهجيتي الموضوعية في مقاربة الأمور. ولا أفشي سراً ، أني علماني ولست طائفياً، أنطلق من مصالح لبنان الوطنية وأقارب الأمور بهذه المنهجية. لقد قرأ أحد السياسيين المسيحيين كتابي {حرب لبنان}، وقال لي إنه يتفق معي بنسبة 80% حول ما جاء في الكتاب.  تاريخ لبنان خلال الحرب قد كُتب من قبل أقلام طائفية. لكن لم أسمع انتقاداً بأني كنت منحازاً إلى أحد. فقد قاربت الأمور بموضوعية، واضعاً نصب عيني جلاء الحقيقة. وهذا ظهر مرة أخرى في مقالاتي العديدة حول لبنان وفي كتابي الأخير: {لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف}. أعتقد عندما نتربى على الوطنية والموضوعية ونبتعد عن المصالح الضيقة وزواريب السياسية الفاسدة، ونعتمد منهجية صارمة رصينة، فإننا نستطيع أن نرى الحقيقة ونقدمها إلى الناس ليتعلموا دروساً منها.

فشل الدولة في لبنان في تحقيق السيادة على أرضها بفعل التشابك بين نزاعات الداخل وتدخلات الخارج، هل يعني برأيك فشل  ما يسمى بـ {الديمقراطية التوافقية}؟

لقد أجبت على شق من هذا السؤال. فالديمقراطية التوافقية تتطلب التوافق على القرارات. ولكن إذا ما تعطل هذا التوافق، فمعنى ذلك أن الصدام آت. والشواهد على ذلك كثيرة، ولا حاجة إلى تكرار الحديث عنها. أما إذا كان نظاماً ديمقراطياً حقيقاً، فمعنى ذلك أن رأي الأكثرية هو الذي يجب أن يسود. وأسارع إلى القول إن {رأي الأكثرية} لا يعني أن تستبد الأكثرية الإسلامية بالأقلية، كما هو حاصل في البلدان العربية، حيث نرى منهجية مبرمجة للقضاء على الأقليات أو تهحيرها. يجب أن نتربى على الديمقراطية ونتعلم ممارستها والقبول برأي الآخر وبوجوده، انطلاقاً من مصلحة لبنانية عليا.

سيطرة الولاء الطائفي على الولاء الوطني، سوء تطبيق الطائف وتأثيره في العلاقات المجتمعية... بعد كل ذلك هل يمكن أن نتكلم عن نظام مدني أو علماني،  وكيف يمكن تطبيقه ومتى؟

كنت اعتقد في السابق بإمكان الانتقال إلى نظام علماني أو دولة مدنية. لكن في ضوء ما يجري في لبنان منذ سنوات قليلة، فلا أرى في الوقت الراهن سوى سواد قاتم لمستقبل لبنان. فلا أحد يعرف ما تريده كل طائفة. هل لبنان الموحد، أو لبنان المقسّم، أو لبنان التابع للخارج؟ لقد وضعت خطوات في كتابي لبنان الطوائف من أجل الوصول إلى الدولة المدنية، لكن يبدو ألا أفق لهذا الحل الصعب في ظل {داعش} و{حزب الله} كوجهين لعملة واحدة. فلو كان لدى الجميع ذرة مشاعر وطنية وولاء، لكنا استطعنا البناء عليهما لإيجاد حل يرضى به الجميع. المهم أن يكون الانطلاق من مصلحة لبنان الوطنية العليا. وهذا للأسف غير موجود، عندما أصبحت كل طائفة تريد تدمير الطائفة الأخرى والاستيلاء على القرار السياسي السيادي والارتماء في حضن الخارج الذي تستدفئ فيه.

تعتمد في كتابك منهجية التأريخ المرفق بالتحليل وقراءة للأحداث من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية... هل بات دور المؤرخ اليوم تفسير الأحداث وليس فقط سردها؟

منذ ظهور مدرسة الحوليات في أوروبا، بدأ التاريخ يخرج عن نمطه الكلاسيكي السردي {الرنكالي} للأحداث (Paul Ranke)، ويدخل في عمق المشكلة بدراسة بحثية تحليلية عمودية وليس أفقية، وهذا يؤدي إلى التعمق في البحث والحفر. صحيح أنه لا يمكن الاستغناء عن سرد الأحداث، لكن على الباحث أن يستخدم منهجيات عدة للوصول إلى هدفه العلمي. كنا في الماضي نقول عن علوم الجغرافيا والاجتماع والفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس واللغات الخ... أنها مساعدة لعلم التاريخ، لا يستطيع الباحث أن يتخلى عنها. لكننا نرى اليوم أن هذه العلوم أصبحت متكاملة مع علم التاريخ وليست مساعدة له. أي أن على الباحث أن يصوغ منهجية صارمة باستعمال كل هذه العلوم للوصول إلى الحقيقة التاريخية.

اغتيال الحريري وما أعقبه من أحداث أفرز لبنان إلى تيارين 8 و14 آذار وكلاهما يضمان  طوائف لبنان ، كيف تقرأ هذا  التعايش الطائفي في كل من التيارين؟

هذا الانقسام بعد العام 2005، كان بإمكانه أن يُنتج نظاماً حزبياً على أساس كتلتين متنافستين سياسياً، وليس على أساس طائفي، حيث تضم كل كتلة أعضاءً من طوائف مختلفة. لكن ما حصل أن حزب الله همّش كل القوى في 8 آذار واحتكر القرار السياسي، فيما نرى المسألة بدرجة أقل لدى قوى 14 آذار.

لكن دخول المذهبية إلى هذا الصراع منذ العام 2006، أي الصراع الشيعي السنّي، قضى على إمكان التعايش داخل الطائفة الإسلامية. وفي حين أن قوى مسيحية، كالجنرال ميشال عون، متحالفة مع حزب الله منذ {التفاهم} بينهما في شباط 2006، إلا أن عون لا يملك قراره. فحتى تاريخه، لم يستطع أن ينتزع قراراً واضحاً من حزب الله بتأييده في الانتخابات الرئاسية. وما نراه بين عون وحزب الله ليس تعايشاً مجتمعياً، بل تحالفاً سياسياً بٌني على أساس المصلحة الخاصة.

برأيك هل الأحداث في تاريخ لبنان المعاصر منذ استقلاله حتى اليوم  مردها الطائفية وحدها؟

إنها الطائفية السياسية التي تتغذى من الطائفية المجتمعية. خلال عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني وبعده، كانت هناك طائفية مجتمعية، أي احتفاظ كل طائفة بخصوصياتها وثقافتها وعقيدتها، وفي الوقت نفسه كانت هناك تحالفات سياسية  فوق الطائفية على أسس حزبية (القيسية واليمنية).

لكن منذ تطبيق نظام القائمقاميتين واعتماد نظام المتصرفية في العام 1861، وتقاسم المناصب السياسية بين اللبنانيين على أساس طائفي نسبي في مجلس إدارة المتصرفية، بدأت الطائفية تشكل أساس العمل السياسي. وظل هذا معمولاً به في لبنان الكبير، حيث نصت المادة 95 من الدستور اللبناني على أن الطائفية السياسية هي حالة موقتة، من دون أن تجد وسيلة لألغائها. وفي لبنان المستقل، أُبقي على الطائفية السياسية بنص شفهي (الميثاق الوطني) حول تقاسم المناصب الرئاسية الأولى الثلاثة، وكذلك الحكومات والمجلس النيابي ومؤسسات الدولة. ونرى طوال هذا الوقت، أن الصراع ظل طائفياً بتنافس الطوائف على المغانم والمناصب، وهيمنة البعض على الدولة ومؤسساتها، وادعاء البعض الآخر بالغبن والحرمان. صحيح أن تفاوتاً اجتماعياً وطبقياً ظهر بين الطوائف اللبنانية، إلا أن هذا لم يؤد إلى ظهور صراع طبقي أو اجتماعي في لبنان. لقد تمكن اللبنانيون من إدارة خلافاتهم الاجتماعية حتى العام 1975 والتسوية حولها من دون الدخول في صراعات عسكرية. لكن ظهور الناصرية في المشرق العربي، والصراع العربي الإسرائيلي، ووجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، أدت إلى أزمات في لبنان: العام 1958 وفي الأعوام 1968 و1975، إلى أن اندلعت الحرب الشاملة في العام 1975. ولم تكن حرب لبنان 1990-1975 أساساً طائفية صرفة، ولا اجتماعية، بل سياسية حول دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، وانقسام اللبنانيين حول النشاط العسكري الفلسطيني في لبنان. فكان هناك انقسام سياسي وليس طائفياً، وإن غُلّف الصراع بقشور طائفية.

back to top