الأهل والأبناء... مدٌ وجزر!

نشر في 30-08-2014 | 00:02
آخر تحديث 30-08-2014 | 00:02
بدءاً من طول قامة الطفل، مروراً بأخلاقيات العمل لدى المراهق، وصولاً إلى زواج الأبناء الراشدين... تشير مجموعة من الدراسات إلى أن الأمهات والآباء قد يكونون من أسوأ الأشخاص الذين يطلقون الأحكام على أولادهم. لكن في العمق، ثمة أسباب تكيفية للمفاهيم الخاطئة التي يتمسك بها الأهل. في حضانة بروكلين حيث تعلّم زوجتي، يصل في كل خريف أهالي الطلاب الذين لا يتجاوز عمرهم الثالثة وتبدو ملامح الدهشة والتوتر على وجوههم. إنها بداية المغامرة الكبرى بالنسبة إلى أولادهم في مجال التعلم والتواصل الاجتماعي، فتتبادر إلى أذهانهم الوعود والإخفاقات التي واجهوها بنفسهم في أيام المدرسة.

لحسن الحظ، يكون كل طفل في عمر الثانية مميزاً (أو على الأقل إنها الرسالة التي يحاول الأهل نقلها إلى المعلّمين حين يأتون لاصطحاب أولادهم). قد تشيد الأم مثلاً برشاقة ابنتها فتقول بإعجاب: {ستدرس الباليه حتماً، أليس ذلك؟}. أو قد تقول أم أخرى: {انظروا كم يركز ابني حين يلعب الليغو! لقد وُلد كي يصبح مهندساً!}.

يظن الأهالي أن أولادهم سيصبحون في المستقبل نجوماً في كرة القاعدة أو أساطير في هوليوود أو أنهم سيفوزون بجائزة نوبل. هم لا يستطيعون منع نفسهم من ذلك: ينظر الأهل إلى أولادهم بطريقة لا يدركها الآخرون. في بعض الحالات، تساهم مقاربة الأمور بطريقة إيجابية في تعزيز احترام الذات لدى الأهالي والأولاد على حد سواء. لكنها قد تعزز في حالات أخرى مشاعر الإنكار التي لا تساعد أحداً.

مفاهيم مغلوطة

المفاهيم المغلوطة هي جزء طبيعي من تربية الأولاد. يرى الآباء والأمهات أولادهم على طريقتهم، مثلما كانوا يرونهم عند الولادة. كما أنهم يصرون على تخيل مستقبل أولادهم بعد فترة طويلة. إذا قال لك والدك أو والدتك يوماً إنهما يتوقعان أن تحذو حذوهما، فستعلم ما أقصده حتماً. ما من سبب واحد لتفسير المفاهيم المغلوطة لدى الأهالي، لكن يمكن بدء البحث من مكان مفيد، بحسب رأي الخبراء: المرآة. بما أننا كائنات أنانية، نرى العالم من المنظور الذي يناسبنا.

كما أننا نطلق أحكاماً ذاتية جداً على أنفسنا. يظن معظم الناس أنهم مميزون بطريقة ما وأنهم يتمتعون بصفات تميّزهم عن الآخرين. تقول الباحثة في علم النفس جوديث ريتش هاريس، مؤلفة كتاب {نظرية التربية: لماذا يصبح الأولاد ما هم عليه؟} (Nurture Assumption: Why Children Turn Out Way They Do): {التحيز الذي يخدم المصالح الشخصية يمنح الناس نظرة مبالغاً فيها عن تميّزهم}. توفر تلك الأوهام الإيجابية منافع نفسية حقيقية، فهي تعزز التفاؤل مثلاً وتشعرنا بأننا نتحكم بمستقبلنا.

يمكن أن ينقل الأهالي، في مختلف الظروف، تلك الأوهام الإيجابية إلى أولادهم كونهم مقتنعين، في وعيهم أو لاوعيهم، بأن أولادهم يتمتعون بصفات مميزة تنعكس بدورها على مهاراتهم التربوية. تقول هاريس: {إذا أبلى الأولاد حسناً، قد ينسبون هذه النتيجة إلى أمر يعتبرونه غير مألوف في أساليبهم التربوية، ولكنهم لا يدركون أن ما يفعلونه يشبه ما يفعله معظم الأهالي الآخرين}.

لتعزيز ذلك التحيز الذي يخدم مصالحنا الشخصية، من المفيد أن نرى أولادنا بأفضل صورة إيجابية. يقول عالم النفس مارك ليري من جامعة ديوك: {ما لم تربطهم علاقة صدامية ومريعة، يمنح الأهالي أولادهم {منفعة الشك}. هم يظنون أن أولادهم أذكى وأكثر جاذبية من الواقع}.

يؤدي العامل البيولوجي دوراً قوياً في تحيز الأهل. من وجهة نظر تطورية، نحن مجبرون على التكاثر كي ننقل معطياتنا الوراثية إلى الأجيال المستقبلية ونتجنب الانقراض. يشكّل أولادنا استثماراً بيولوجياً لمستقبلنا وسرعان ما نضطر إلى الالتزام بسلوك استراتيجي لحماية ذلك الاستثمار.

قد لا يبدو هذا الجانب عاطفياً بما يكفي. ألا يُفترض أن ترتكز نظرتنا لأولادنا على الحب والعاطفة؟ يجيب عالم النفس التطوري جاي بيلسكي من جامعة كاليفورنيا – ديفيس بالإيجاب. لكنّ تلك العواطف قد لا تكون محفزات فاعلة بقدر ما نظن. يقول بيلسكي: {نحن نتمسك بهذا المفهوم المغلوط في الثقافة الغربية، وتحديداً في علم النفس الغربي، بمعنى أنّ الأهالي يحبون أولادهم حباً غير مشروط ويكرسون نفسهم لهم، مع أن التحليل التطوري يعتبر أن الأولاد بمثابة استثمارات يقوم بها الأهل، عن غير قصد على الأرجح، مقابل مردود معين يمكن أن يحصلوا عليه من أولادهم}.

نطرح في ما يلي سبعة من المفاهيم المغلوطة الأكثر شيوعاً وأسبابها:

{ابني موهوب}!

مقارنةً بالفترات التي شهدت إنجاب عدد أكبر من الأولاد، صرنا اليوم نستثمر المزيد في أولادنا بحسب قول ليري.

توافقه الرأي عالمة النفس التطوري جنيفر هان هولبورك من جامعة شابمان في أورانج، كاليفورنيا: {يميل الأهل إلى التدخل المفرط في حياة أولادهم بنسبة متزايدة اليوم، وتشتدّ تلك الحاجة إلى رؤية الأولاد متفوقين بسبب إنجاب عدد أقل من الأولاد. حين تنحصر جميع آمالنا في ابن واحد، لا شك في أننا سنستثمر كل ما نملك فيه. لكن إذا أنجبنا ستة أو سبعة أولاد مثلاً، قد يتراجع استثمارنا في كل ابن، لأن أداء ابن واحد لن يحسم مستوى النجاح في أسلوب التربية}.

على صعيد آخر، أثرت التغيرات الاجتماعية الطويلة الأمد في هذا المجال. في الماضي، كانت تربية الطفل تتطلب تكاتف الجهود بين العائلات الواسعة والجيران المقربين، لكننا أصبحنا اليوم محصورين ضمن وحدات عائلية مستقلة. يتصرف الأهالي اليوم من دون التوجيهات والتجارب التي كانوا يتلقونها من الأكبر سناً. لم يعودوا  يراقبون سلوكيات الأولاد والأهالي الآخرين بشكل يومي. وقد ينتهي بهم الأمر باستخلاص الاستنتاجات عن أولادهم استناداً إلى عينة محدودة جداً: ما يحصل داخل منزلهم.

إلى جانب الرغبة في رفع مكانة الأولاد في ظل اقتصاد تنافسي يعجّ بالرسائل المختلطة عن النجاح، ينتج هذا الوضع نوعاً من التفكير المغلق الذي يمكن أن يؤدي إلى نشوء مفهوم خاطئ وشائع: {ابني موهوب}!.

يقول ليري: {عندما أحاول أن أعرف إذا كان ابني يقدم أداء أفضل أو أسوأ من أولاد آخرين، فأنا أرتكز بذلك على معلومات ضئيلة جداً. لا تنطبق هذه النظرية على معظم معطيات التاريخ التطوري البشري، بما في ذلك التاريخ الحديث. أظن أننا أصبحنا معرّضين لارتكاب هذا النوع من الأخطاء أكثر من أي وقت مضى عند إطلاق الأحكام على أولادنا}.

يقول أستاذ الأنثروبولوجيا بيتر غراي من جامعة نيفادا - لاس فيغاس: {ابني موهوب طبعاً!} تعطي هذه العبارة أثراً تراكمياً: إذا كنت تحب ابنتك، ستراها حتماً بأفضل طريقة ممكنة، فتكون بالنسبة لك أكثر جاذبية وذكاءً من العادة وتبدو موهوبة اجتماعياً وأكاديمياً. من وجهة نظر تطورية، قد نقول إنه سلوك تكيّفي وجزء من الارتباط العاطفي الذي يشعر به الأهل تجاه أولادهم، وهذا ما يدفعهم إلى القيام بشتى الأمور من أجلهم}.

{يبقى طفلي}!

يفسر الارتباط العاطفي ما يجعل عدداً كبيراً من الأهالي يعتبرون أصغر أولادهم {طفل العائلة} دوماً، حتى بعد أن يصبح راشداً وناضجاً.

في دراسة جرت في عام 2013، قام عالم النفس التطوري جوردي كوفمان من جامعة سوينبورن الأسترالية باستطلاع شمل 747 أمّاً، فاعترفت 70% منهن بأن الابن الأصغر (كانوا جميعاً بين عمر الثانية والسادسة) يكبر فجأةً عند وصول شقيق جديد له. يقول كوفمان إن النظرة إلى الطفل تتبدّل لأن الأم تعتبر الابن الأصغر سابقاً (أو الابن الوحيد) أصغر مما هو عليه.

حين يولد طفل جديد، يزول {السحر} وتكتشف الأم أخيراً حقيقة الابن الذي كان أصغر أولادها سابقاً، ولكنها تنقل ما يسميه كوفمان {وهم الطفولة} إلى المولود الجديد.

يقول كوفمان: {يؤثر مفهوم {الطفولة} الذي يتمسك به الأهل على رؤيتهم لأصغر أولادهم لبقية حياتهم. هم لا يستحدثون ذلك المفهوم إلا إذا وُلد طفل آخر، أي حين يصبح الابن الجديد {طفل العائلة}، ويجب أن يتوقع هذا الأخير أن يبقى في هذه المكانة دوماً، أقله بنظر الأهل.

{ابني الأكبر متكاسل}!

على صعيد آخر، قد يعتبر الأهل أن ابنهم البكر شخص متكاسل، نظراً إلى ارتفاع التوقعات من الابن الأكبر، فينتظرون منه أن يتفوق أكاديمياً وأن يكون قدوة لأشقائه وشقيقاته الصغار. يكرر الأهل على مسامعه: {يمكنك أن تبذل جهداً أكبر بكثير}! لكن غالباً ما يتفوق الأولاد الأكبر سناً على أشقائهم الصغار على المستوى الأكاديمي.

في دراسة أجريت عام 2013، قام الخبير الاقتصادي جوزيف هوتز من جامعة ديوك ومساعده خوان بانتانو من جامعة واشنطن في سانت لويس باستطلاع شمل عدداً من الأهالي. صُنّف المشاركون لاحقاً ضمن فئتين: الأهل {غير المتسامحين} الذين يبدون استعدادهم لتأديب أي ابن من أبنائهم، إذا كان أداؤه المدرسي سيئاً بغض النظر عن ترتيبه بين أشقائه؛ والأهل {المتسامحون} الذين لا يحبون معاقبة أحد من أولادهم بغض النظر عن ترتيبهم.

طرح هوتز على المجموعة الثانية سؤالاً افتراضياً عن كل طفل في العائلة: {إذا جلب أحد الأولاد دفتر العلامات وكان معدله أقل من المتوقع، إلى أي حد ستحرصون على مراقبة نشاطاته؟}. كشفت الأجوبة أن الآباء المتسامحين سيتعاملون بصرامة أكبر مع أولادهم الكبار ويشرفون عليهم عن قرب. أطلق هوتز نظرية بشأن هذا التحيز الواضح ضد المولود الأول باعتباره محاولة لتوجيه رسالة إلى الأشقاء الأصغر سناً، مفادها أن الأهل أصحاب السلطة وأن الأولاد سيواجهون العواقب في حال حصول أي تكاسل أكاديمي. يوضح هوتز: {هكذا تصبّون معظم طاقتكم على المولود الأول في محاولةٍ لتلقين الدروس لجميع الأشقاء الآخرين}.

كان الأهالي الذين شاركوا في الدراسة يحملون نوايا حسنة، بحسب قول هوتز، وقد تعكس ردة فعلهم على معضلة {التكاسل} محاولة لمعالجة مشكلة منظورة. تتوقف طريقة الأهل لتأديب أولادهم على أولوياتهم الخاصة، لكن لاحظ هوتز ميلاً مشتركاً في التعامل مع الأولاد بطرق مختلفة، إذ يتوقف الأمر على ترتيب ولادتهم في العائلة.

{وزن ابني صحي}!

تكون تداعيات الأخطاء في تقدير طول الطفل حميدة نسبياً، لكن يختلف الوضع حين يظن الأهل أن الأولاد البدينين لا يعانون أي مشكلة.

في فبراير، أصدرت الباحثة أليسا لوندال وزميلان لها مراجعة شملت 121 دراسة منشورة سابقاً وقد غطت أكثر من 80 ألف شخص طرحوا تقديراتهم بشأن وزن أولادهم. فلاحظوا أن أكثر من نصف أهالي الأولاد الذين يواجهون مشكلة الوزن الزائد أو البدانة يستخفون بوزن أولادهم، وأنّ أهالي الأولاد الذين يتراوح عمرهم بين الثانية والخامسة هم الأكثر ميلاً إلى فعل ذلك: إنها نتيجة مثيرة للقلق لأن الأولاد البدينين في هذه الفئة العمرية يكونون أكثر عرضة بخمسة أضعاف إلى مواجهة مشكلة الوزن الزائد في عمر الثانية عشرة.

في هذه الحالة، يمكن لوم العوامل الخارجية (لا سيما وسائل الإعلام) على انتشار هذا المفهوم المغلوط. تظن لوندال أن الأهالي لا يفهمون، بدقة، معنى الوزن الصحي لدى أولادهم لأن التقارير الإعلامية حول بدانة الأولاد تركز، في أغلب الأحيان، على الحالات المتطرفة. هكذا أصبحت الصورة التي يكوّنها الأهل في عقلهم عن وزن الأولاد ومخاطر الوزن الزائد مشوّهة.

لكن قد يبرز جانب إضافي من تلك المفاهيم الخاطئة: الإنكار. تعتبر لوندال أن الأهل قد يرفضون فكرة تصنيف أولادهم بطريقة سيئة، لذا قد يسعون إلى تجنب التفكير بالمسائل السلبية. بحسب رأيها، قد يعني الاعتراف بوجود مشكلة في وزن الطفل أنهم لم يوفروا له الغذاء السليم أو لم يشجعوه على السلوكيات الصحية. كما أن التحرك لمعالجة المشكلة قد يعني أن الأهل سيضطرون إلى إحداث تغيرات لا يريدونها في أسلوب حياتهم.

{لا يمكن أن يكون متنمراً}!

الإنكار هو جزء أساسي من مفهوم خاطئ مزدوج يتعلق بالأولاد والسلوك العدائي. أظهرت الدراسات أن الأهل لا يعترفون بأن أولادهم يتعرضون للتنمر أو أنهم متنمرون.

تقول ديبرا بيبلر، اختصاصية في علم النفس الاجتماعي من جامعة يورك في تورونتو، وهي خبيرة في الوقاية من التنمر: {نادراً ما يخبر الأولاد أهاليهم بأنهم يتنمرون على أولاد آخرين أو يقعون ضحية التنمر. من المخجل أن يقع الطفل ضحية زملائه، وتتعدد الأسباب التي تمنع الأولاد من إخبار أساتذتهم أو أهلهم بما يواجهونه. يتعلق جزء من المشكلة بواقع أن الأهل أو الأساتذة قد يزيدون الوضع سوءاً}.

في بداية التسعينيات، درست بيبلر مجموعتين من الأولاد: كانت المجموعة الأولى عدائية جداً وقد أحالها الأساتذة إلى حصص التدرب على المهارات الاجتماعية. وكانت المجموعة الثانية مرجعية وتشمل أولاداً من العمر والجنس والخليط العرقي نفسه، ويعتبر الأساتذة أنهم يتمتعون بالكفاءة الاجتماعية. وضعت بيبلر ميكروفونات لأعضاء المجموعتين وراقبت سلوكهم في الملعب. كانت النتائج صادمة: تبين أن الأولاد الكفوئين وغير الكفوئين اجتماعياً يضايقون الأولاد الآخرين بالمستوى نفسه.

توضح بيبلر: {منذ تلك الدراسة، أظهرت أبحاث كثيرة وجود أنواع مختلفة من الأولاد المتنمرين، وحتى الأولاد الذين يتمتعون بمهارات اجتماعية عالية قد يحصدون شعبية أكبر حين يتنمرون على غيرهم. لذا لا أتفاجأ إذا استبعد بعض الأهالي أن يكون ابنهم متنمراً}.

التنمر هو سلوك معقد ولا يسهل التأكد من أن الطفل هو المعتدي أو الضحية. بعض الأولاد يلعبون الدورين معاً. قد تكون هذه المشكلة ناجمة أيضاً عن طريقة التربية المعاصرة التي تفتقر إلى نظام الدعم الواسع. تضيف بيبلر: {بات أولادنا يفتقرون إلى التواصل والترابط مقارنةً بالأولاد في كل بلد متطور آخر}. قد يصرّ الأهل على رؤية أولادهم بطريقة إيجابية مفرطة أو ينكرون المشكلة بكل بساطة.

كلنا موهوبون!

هل يمكن أن يظن جميع الأهالي بأن ابنهم موهوب، ويكونون كلهم على حق؟ هذا ممكن طبعاً!

هذه الظاهرة معروفة في مجال علم النفس الاجتماعي باسم {خصوصية الأفراد}. يقول مارك ليري: {يتمتع كل واحد منا بنظام {غربلة} عند التفكير بمعلومات عن نفسنا وعن أولادنا. حتى لو لم نفكر عمداً بذلك، نحن نغربل المعلومات بالطريقة التي تناسبنا}.

بعبارة أخرى، نحن نعيد تعريف معنى الخصائص الإيجابية كي نقول إننا وأولادنا نتمتع بها.

على سبيل المثال، قد تعني {الموهبة} بالنسبة إلى بعض الأهالي أن ينهي الطالب فروضه المنزلية في الوقت المحدد، وقد تعني بالنسبة إلى أهالي آخرين حصد علامات عالية في الرياضيات. من خلال هذه المفاهيم {الفردية}، يمكن أن نقنع نفسنا بأننا أنجبنا ابناً موهوباً وأن ننقل تلك الفكرة إلى الآخرين، وذلك لأسباب كثيرة منها {أن نظهر بصورة جيدة في المجتمع}.

{ابني نسخة مني}!

نشأت جينفر واتسون (47 عاماً) في كارولاينا الشمالية. هي الشقيقة الوحيدة لأربعة شبان، كانت تشارك بكل حماسة في المصارعة وتسلق الشجر وسباق الدراجات النارية خلال طفولتها. تقول واتسون التي أصبحت الآن مصمّمة مواقع إلكترونية في فرجينيا: {لطالما وُجدت وسط الفتيان وأصدقائهم. لم أكن أخشى أن أجرّب الألعاب التي تمتنع معظم الفتيات عن المشاركة فيها}. كانت مقتنعة بأنها إذا أنجبت فتاة يوماً، فستكون مشاكسة بقدرها}.

أنجبت واتسون ثلاث فتيات، فضلاً عن ابنة زوجها. لكن لا تشاركها ابنتها الكبرى جينا (21 عاماً) وإيسادورا (واحدة من توأمين بعمر 13 عاماً)، نظرتها إلى ألعاب الطفولة. تقول واتسون: {لم أحاول أن أوجّههما بطريقة أو بأخرى. شعرتُ بأن بناتي سيتصرفن بصبيانية مثلي لأنني أنا كذلك بطبعي}.

قد يكون افتراض واتسون مألوفاً بين الأهالي، لا سيما الجدد. لكن تشتق فكرة الطفل الذي يكون {نسخة} من أهله من مفهوم مغلوط بشأن طريقة نمو الأولاد وعدم تحكم الأهل بهذه العملية. تُعتبر بيئة الطفل المنزلية واحدة من مجموعة عوامل ترسم معالم شخصيته المستقبلية.

تشير فكرة واتسون المغلوطة عن الطفل المنسوخ عن أهله إلى الافتراض القائل إن أبرز خصائص الشخصية تكون موروثة (لمجرد أنها تتقاسم إرثاً جينياً مع بناتها، من الطبيعي أن يُشبِهْنَها). كان يمكن أن تحب جينا وإيسادورا وتوأمها أوديسا الأميرات أو سباق السيارات أو الفيزياء الفلكية، أو جميع تلك الأمور في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تقوم واتسون بالكثير للتأثير على خياراتهنّ.

يقول ليري: {إنه الخطأ الذي يرتكبه عدد كبير من الأهالي: هم يظنون أن العوامل الوراثية أو طريقة تربية الأولاد ستجعل الأولاد نسخة منهم}.

تشير الدراسات التي تتمحور حول علم الوراثة السلوكي إلى أن شخصيات الناس تتأثر من جهة بالعامل الوارثي ومن جهة أخرى بطبيعة البيئة المحيطة. لكن لا ترتبط بيئة الطفل بالأهل دوماً}.

لماذا يبدو بعض الأهالي مقتنعين إذاً بأن أولادهم يشبهونهم، مع أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك؟ يجيب ليري: {يلحظ الأهالي وجود بعض نقاط التشابه مع أولادهم ولكنهم لا يلحظون الاختلافات بالقدر نفسه. لذا يسهل أن يتقبل الأهل أن يحب الأولاد ما يحبونه أو يغضبوا بالطريقة نفسها أو يتبنوا المواقف عينها، ولكنهم لا يتقبلون أن يكون الأولاد مختلفين عنهم. لكن غالباً ما تكون الاختلافات أكثر من نقاط التشابه}.

يمكن أن يؤثر الأهل بشدة على حياة أولادهم عبر إدخالهم إلى مدارس تضمن نجاحهم أو إنشاء بيئة منزلية تدعم النشاطات الإبداعية، بحسب رأي هاريس. لكن لا تكون محاولات الأهل تلقين السلوكيات لأولادهم فاعلة بالقدر نفسه، ولن يكون تأثير الآباء والأمهات على سلوك الطفل أكبر من تأثير نظرائه.

لكن إذا لم يكن تأثير الأهل على شخصية الأولاد مباشراً، فكيف نفهم الشخصيات المتشابهة على أرض الواقع مثل لايزا مينيلي وجودي غارلاند، أو بيتون وإيلي وأرتشي مانينغ، أو بن وجيري ستيلر؟ هذه الأمثلة ليست مفاجِئة بحسب رأي هاريس لأن الأهل لديهم بعض السلطة على أولادهم، وتكون هذه الظاهرة أقوى من العادة في بعض الحالات. من الناحية الوراثية، ينقل الأهل بعض الخصائص النفسية والجسدية. ومن الناحية البيئية، يمكن أن يوفروا لأولادهم بعض التدريب والمعارف ويشجعوهم على اختيار مهنة معينة. قد تكون إدارة شركة العائلة قراراً سليماً من الناحية المالية أحياناً.

{زوجة ابني تطلب نصيحتي}!

من الإيجابي أن نظن أننا سنتخلص من المفاهيم المغلوطة التي يحملها أهالينا عنا حين نبلغ سن الرشد ونكوّن عائلاتنا الخاصة. لكن لا يتحقق ذلك دوماً.

حين يكبر الأولاد ويتزوجون، قد تبرز مجموعة جديدة من المفاهيم الخاطئة لدى الأهل بحسب قول تيري أوربوش، اختصاصية في علم النفس الاجتماعي من {معهد البحوث الاجتماعية} في جامعة ميشيغان. يتعلق أحد أبرز المفاهيم، لا سيما في السنوات الأولى بعد زواج الأبناء، بالفكرة القائلة إن نصائح الأهل وتوجيهاتهم تكون قيّمة ومستحبّة.

عام 1986، بدأت أوربوش تتعقب 373 ثنائياً من الأزواج الجدد لفهم طبيعة الزواج والضغوط التي ترافقه. في 2012، نشرت النتائج التي تشير إلى تراجع احتمال الطلاق بنسبة 20% إذا ارتبط الأزواج بعلاقة وثيقة مع أهل زوجاتهم. لكن حين تحدثت الزوجات عن ارتباطهنّ بعلاقة وثيقة مع أهل أزواجهنّ، ارتفع خطر الطلاق بنسبة 20%. توضح أوربوش: {حين يتقرّب الرجل من أهل زوجته، تفهم الزوجة أنه يريد بذلك أن يثبت لها مدى أهميتها بالنسبة إليه، وهذا ما يجعل عائلتها مهمة له أيضاً. كذلك، لا يأخذ الرجل تعليقات أهل زوجته بطريقة شخصية عموماً}.

في المقابل، تكون المرأة بطبيعتها أكثر ميلاً إلى إقامة العلاقات مع محيطها بحسب رأي أوربوش، لذا تكون أكثر حساسية تجاه التعليقات التي تسمعها بشأن دورها في العائلة، وقد أكدت أبحاثها على هذه النتيجة. تضيف أوربوش: {تأخذ الزوجة تلك التعليقات بطريقة شخصية جداً لأنها تكشف جانباً منا كأفراد أو عن نظرتنا إلى نفسنا أو قيمتنا الذاتية. وحين يصدر ذلك التعليق من أم الزوج، يمكن أن تعتبره الزوجة تدخلاً في حياتها الزوجية}.

يمكن أن تسبب أم الزوج الخلاف في زواج ابنها، عن قصد أو عن غير قصد. مع ذلك، يتحدث عالم النفس جوشوا كولمان، أحد رؤساء {مجلس العائلات المعاصرة}، عن ضرورة التساهل مع أم الزوج إلى أن تتكيف مع دورها الجديد: {يجد بعض الأهالي صعوبة في تخفيف انتباههم وتدخلهم (وحتى حبهم) في حياة الابن الراشد الذي يلتزم بعلاقة جدية مع زوجته}.

تبرز المفاهيم المغلوطة في عقل الأهالي وتترسخ بطرق قد تبدو غير منطقية للوهلة الأولى. حين تكون علاقة الأهل بالأولاد قوية جداً، قد تبقى متينة ولا تتزعزع. كل ما يمكن فعله هو الاعتراف بدور الأبناء والسعي إلى منحهم مساحتهم الخاصة. تقول جنيفر واتسون: {في أعماقكم، حين تدركون أن أولادكم مختلفون عنكم، ستقدمون لهم أفضل هدية على الإطلاق. يجب أن تعززوا ذلك الشعور وتدعوهم يعبّرون عن شخصيتهم الحقيقية بكل بساطة!}.

back to top