قايجن في طوكيو والفرق بين النظام والفوضى

نشر في 01-11-2014
آخر تحديث 01-11-2014 | 00:01
 شمائل عبدالعزيز الشارخ "النظام والفوضى" موضوع عميق لا أستطيع الخوض فيه بشكل وافٍ ولا إعطاءه حقه خلال أسطر هذا المقال البسيط، لكنني سأحاول أن أشرح لكم ما رأيته من نظام خلال رحلة قصيرة قمت بها إلى طوكيو:

عشت أنا وأسرتي في العاصمة اليابانية من عام 1988 إلى 1992 وذلك حينما تولى والدي منصب سفير الكويت لدى اليابان، وقد كانت الحياة في اليابان غريبة، فهي في أقصى الشرق، وأغلبية الشعب لا تتقن اللغة الإنكليزية، كما كنا نحن الأجانب نسمى "بالقايجن"، إلى درجة أننا كنا نزور بعض القرى الصغيرة خارج طوكيو فيقوم بعض أهلها بتصويري أنا وإخوتي كأول "قايجن" عرب نمر عليهم، وبسبب صغر سني آنذاك، لم أكن مدركة أهمية التجربة التي أمرّ فيها، ولم أكن مهتمة بالتعرف على طباع الشعب الياباني واختلافه عن الدول العربية والأوروبية التي زرتها، وبالتالي كان همي الوحيد عندما غادرنا أنا وأسرتي اليابان هو فراق صديقات الدراسة.

بعد مرور اثنين وعشرين عاما على وجودنا في قايجن في طوكيو، قررت العودة إليها مع والدتي، ولن أخفي عن القارئ أنني كنت متخوفة بعض الشيء لأني لم أسافر إلى دول شرق آسيا منذ فترة طويلة، وكنت متخوفة من صعوبة بعض الأمور وأولها اللغة، ولكن سرعان ما تلاشت مخاوفي في أول ساعات الوصول إلى طوكيو، فوجدناها كما هي، واحة أمان يسود فيها النظام. تفاصيل الرحلة طويلة وأيامها ممتعة ولكن من الأمور التي شدت انتباهي هي أهمية قيمة الإنسان في المجتمع الياباني، فبالرغم من أن الشعب الياباني معروف بتقديسه للعمل الجماعي- وليس الفردي كما هو معتاد في الدول الغربية- فإن هدف العمل الجماعي يبقى إرضاء للفرد، فنجد كل من يعمل في الفندق لديه هدف واحد هو إرضاء النزيل، وكل من يعمل في محطة القطار لديه هدف واحد هو توصيل الراكب من مكانه الحالي إلى المكان الذي يريد أن يصل إليه، ونجد كل من يعمل في السوق التجاري يشكر الزبون الذي يخرج محملا بكيسٍ واحد، وإن كان أصغر كيس من أرخص محل!

في اليابان الإنسان هو الهدف الأسمى، وبما أن الإنسان هو الهدف، فالعمل من أجله هو نمط العمل، فأي عمل يقوم به أي مواطن ياباني من أجل إنسان آخر، يجب عليه أن يتقنه، وبالتالي، الكل فخور بعمله في اليابان والكل يؤدي دوره بدقة وإتقان، من طباخ السوشي الذي يقوم بتقطيع وتقديم شرائح السمك بدقة الجراح وهو في غرفة العمليات، إلى الموظف العائد إلى بيته في الشارع، والذي إذا طلبت منه أن يصف لك الطريق إلى مكان ما أو إلى محطة القطار لا يكتفي بالوصف فقط، بل يقوم بتوصيلك إلى المحطة بنفسه حتى إن كانت عكس طريقه.

وكلما شاهدت أحد هذه التصرفات الرقيقة الصادرة من شعب اليابان الكريم، تحسرت على العالم العربي بأسره، فنحن أمة بنت أمجادها على الهجاء والفخر ولم يتوافر لديها في الوقت الحالي الكثير لنفتخر به!

نعم، العالم العربي هو أهم مصدر للطاقة، نعم لدينا بحور وأنهار وخلجان ووديان لكنها كلها نعم من الله عز وجل وليس لنا دور في بنائها، ولا ننسى أن أهم نعم حباها الله للعالم العربي أنه جعله مهبط الديانات السماوية وعلى رأسها الإسلام الذي قمنا بجدارة بتشويه سمعته عن طريق جماعات ليس لها من الإسلام إلا الاسم، فالكثير منا يقرأ الآية العطرة "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الإسراء) ولا يعمل بها، فنجد من يهين زوجته لأتفه سبب أو يهين عاملا وافدا لديه أو حتى أخاه المواطن، فإن كان الله قد كرّم ابن آدم، فلماذا يهنه عبده؟ ولماذا نرى تكريم بني آدم عند القوم الذين لا يفقهون الإسلام، إلا أنهم يمارسون أخلاق المسلم أفضل من الكثير من المسلمين؟ ولماذا تشعر امرأتان مسلمتان بالطمأنينة في الباص العام في طوكيو ولا تشعران بالأمان في سيارتهما الخاصة في شوارع الكويت بعد الساعة الحادية عشرة؟ ولماذا نكرر أساطير شعرائنا وكلماتهم التي تقول "نحن أناس لا توسط بيننا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، في حين الحقيقة تهتف مدويةَ بأن القبر أقرب للعالم العربي من الصدارة في أي شيء!

في يوم ما، كنا قادة العالم ورواد العلم والمعرفة، ولم يأت ذلك عن طريق كلمات الهجاء والفخر، بل أتى عن طريق العمل وإتقان البحث والتعمق في العلم ونشره. كنا أسياد العالم حين كان المجتمع ينظر إلى المدرس نظرته للفارس نفسها، وحين كان المجتمع ينظر للمزارع نفس نظرته للتاجر، فالكل كان يؤدي دوراً يفتخر به، وبالتالي يتقنه امتثالا للحديث الشريف "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".

وفي بلدي الغالي الكويت، لا تختلف الصورة عن بقية العالم العربي، ففي زمن الغوص، الكل كان يمشي باعتزاز، سواء كان "غيص" أو "نوخذه" أو "طواش"، فالكل لديه عمل يتقنه والكل لديه مهنة يفتخر بها، أما الآن فنحن نعيش في عالم التفاخر من فراغ، والنظرة إلى المجتهد كأنه "متفلسف" لأن العمل أصبح إما للعمالة الوافدة أو للسذج ولا عزاء لمن يجد المتعة في عمله.  النهوض بالأمم لا يأتي عن الطريق الولولة على حال أمة العرب، ولن يأتي عن طريق الوعود الحكومية العقيمة والتغريدات الثورية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالأمم يصنعها فكر سليم وعمل جماعي ونظام عادل وحكم رشيد، فالذي أنقذ اليابان من دمار شامل في 1945 وجعلها تتحول إلى دولة عظمى خلال خمسين عاما هو أن اليابانيين يعملون من أجل قضية وطن وهدف واحد وهو كرامة الإنسان، فالكرامة هي أن يحس الإنسان بأنه محترم ومقدر ومحميّ تحت القانون حتى إن كان أضعف الخلق، فسبحان من كرّم الإنسان... وأسفي على من يعتقد أن كرامة الإنسان في هذا الزمن شعار بلا قيمة.

نصيحة أخيرة:

قبل أيام قرأت قصيدة رائعة للشاعر أحمد مطر في الصحيفة الزميلة "القبس" بعنوان "فرعون ذو الأوتاد" وسعدت بها، وأتمنى أن تعود الكويت لدورها كدولة حاضنة للأشراف من المعارضين العرب فإن كنا لا نستطيع أن ننجز مشاريع كبيرة نفتخر بها، فدعونا نحافظ على ما تبقى من مصدر عزنا وعزوتنا: الدستور الكويتي، وما يكفله من حرية فكر ورأي وتعبير وكرامة لكل من في الكويت من مواطنين ووافدين وضيوف.

back to top