«داعش» ... قد يصبح صوت السُنّة إذا لم يوضع عند حده

نشر في 18-08-2014
آخر تحديث 18-08-2014 | 00:01
 ذي نيو ريبابليك ساهم الشعور العميق والراسخ الهدف لـتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وقدرته السياسية والمالية والعسكرية، في تأمين ملاذٍ آمن له بين نهري دجلة والفرات، صحيحٌ أن الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة قد تساعد في دحر زحف "الدولة الإسلامية"، لكن إذا كان الشعب الأميركي لا يريد فعلاً الانجرار إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، فيجب على واشنطن أن تدعّم هذه المكاسب من خلال العمل مع حلفائها العرب على تقوية السنة المعتدلين القادرين على ملء الفراغ الذي قد تخلفه هزيمة "داعش" في سورية والعراق.

وتنبع قوة "الدولة الإسلامية" من فعاليتها في ضمّ المسلمين السنّة إلى صفوفها من أجل مقاتلة ما تعتبره أنظمة شيعية مدعومة من إيران في كل من بغداد ودمشق، فالمحاولات التي قام بها الأسد والمالكي لإرضاخ السنّة في بلديهما، سواء بالترهيب أو بالترغيب، أدت إلى استقطاب الجهاديين من جميع أنحاء العالم إلى سورية والعراق. وعلى خلاف التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تعتمد على شبكات التمويل والمحسنين الأثرياء، يركز "داعش" على الاكتفاء الذاتي من خلال الابتزاز وبيع المنتجات النفطية وفرض الضرائب والرسوم لتوليد العائدات. وتتيح له هذه الأموال تنفيذ عمليات تدرّ عليه المزيد من مصادر الربح، بما في ذلك ملايين الدولارات من مصارف الموصل والمعدات العسكرية الأميركية، وتستخدم هذه الغنائم غير المشروعة لشراء موالاة الجماعات والقبائل المحلية ودعمها.

وفي المقابل أرسى تنظيم "الدولة الإسلامية" النظام وفرض العقوبات الصارمة على مخالفات الشريعة الإسلامية في حين أمّن حماية السكان المحليين من نظامَي الأسد والمالكي، كما يعيد إحياء فخر المسلمين السنّة بفضل غاراته الناجحة على الجيش العراقي والقوات السورية التي استولت على مصانع تكرير النفط وحقول الغاز، وكل ذلك دفع زعيم "داعش" إلى عدم الاكتفاء بإعلان "الدولة الإسلامية"، بل قام أيضاً بإعادة "الخلافة الإسلامية" التي تم حلُّها رسمياً قبل تسعين عاماً.

وحتى الآن أثبت الجيش العراقي عجزه عن دحر "داعش"، ويعزى ذلك بالدرجة الكبرى إلى قدراته العسكرية وعتاده الذي استولى عليه حديثاً، غير أن الخسائر التي يتكبدها الجيش العراقي تعود بمعظمها إلى عدم استعداد حكومة المالكي لدمج السُّنة في الحكم، وهذا أمر نتج بدوره عن الدعم الذي تتلقاه من إيران، أما القوات الكردية التي قررت واشنطن تسليحها الأسبوع الماضي فهي في موقع يخولها دفع "داعش" إلى الوراء بالقرب من معاقله الشمالية، ولكنها لن تتمكن من الانتشار في المناطق السنية من العراق، والأرجح أنها لن ترغب في ذلك.

وتنطبق القيود العسكرية والسياسية نفسها في سورية، فبالرغم من المكاسب الأخيرة التي حققها الأسد في غرب البلاد، لا يزال استعداده وقدرته على تسيير العمليات في سورية- حيث تكبدت قواته خسائر جمة- محدودين. ونظراً إلى موقف الأسد المتشبث خلال محادثات "السلام في جنيف" والظروف المحيطة بـ"إعادة انتخابه" في يونيو الماضي، من غير المرجح أن يستقطب النظام السنّة المعتدلين إلى جانبه.

وقد اقترح البعض دعوة إيران إلى تولّي مشكلة "داعش" بالنيابة عن الولايات المتحدة كجزء من "صفقة كبرى" حول برنامجها النووي، إلا أن تلك المحادثات لا تسير على ما يرام، وحتى إذا انبثق عنها اتفاق، يقول المسؤولون الإيرانيون والأميركيون إن مسألة طموحات إيران النووية والإقليمية ستبقى "محدودة الأهداف ومعزولة البيئة" لأسباب تقنية وسياسية، وعلاوة على ذلك، يرفض خامنئي بقوة العمل مع الولايات المتحدة، ولم يمنح الرئيس روحاني أي سلطة على الملفات العراقية أو السورية، خلافاً لقبوله على مضض بالمفاوضات النووية التي سعى من خلالها إلى تخفيف العقوبات، بالإضافة إلى ذلك لا تقدّم القوات المدعومة من إيران منفعة إيجابية تُذكر: فالجماعات المسلحة المدعومة أو المدربة من "قوة القدس" التابعة لـ"الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني (وهي الهيئة المسؤولة عن تدريب الجماعات الممثلة لإيران والمدعومة منها) على غرار "حزب الله" و"سرايا الدفاع الوطني"، تملك قدرة شبه معدومة على العمل بعيداً عن عمقها الاستراتيجي في إيران ولبنان. والأسوأ من ذلك هو أن إيران تشجع التشدد الطائفي الذي يدفع السنّة إلى التعاون على مضض مع "داعش" على اعتباره أفضل من فصائل الموت التي ترعاها إيران.

وفي الواقع أن "السنّة المعتدلين" الذين يكثر الكلام عنهم ينحدرون من الديمغرافية نفسها التي تتحدر منها "الدولة الإسلامية" وتنظيم "القاعدة"، لكن الدول العربية السنية تفتقر إلى تنظيم "شبيه بـقوة القدس" لتدريب السنة المعتدلين، وفي الوقت نفسه كان المجتمع العربي السني يدعم إلى حدٍّ ما الجهاديين بالأموال والرجال، مقلّداً الأدوات المتدنية الكلفة لـ"قوة القدس" في دعم الفصائل الشيعية المتطرفة إنما بدون عنصر الانضباط، وكلّ ما فعله افتقار الدولة إلى الهدف الموحد هو أنه فاقم الانقسامات في صفوف السنّة السوريين والعراقيين.

حتى الدول المجاورة لسورية ليست بموقعٍ يخوّلها اجتثاث "داعش" من الجذور، بل هي تفضّل احتواء الأزمة داخل سورية، وذلك بدرجات نجاح متفاوتة. حتى الآن كان الأردن هو الأنجح بين هذه الدول، حيث ضبط حدوده مع سورية منذ بداية الأزمة في حين عمل مع الولايات المتحدة على دعم الثوار السوريين سرّاً، ومع ذلك استقبل الأردن نحو مليون سوري يعيشون في البلاد خارج مخيمات اللاجئين، وكان خطر الاعتداءات الإرهابية، سواء من نظام الأسد أو من المتشددين السنّة، قد دفع الأردن إلى النفور حتى الآن من البرنامج الذي اقترحته إدارة أوباما بشأن تدريب المعارضة السورية وتجهيزها بشكل أكثر علانية.

أما تركيا التي تملك الحدود الأطول والأكثر انفتاحاً مع سورية فلم تبدأ إلا في الآونة الأخيرة بالتحرك لقمع الحركات الجهادية التي تعمل من أراضيها نحو سورية، لا سيما بعد أن احتجز "داعش" الرهائن في القنصلية التركية في الموصل، وعلى غرار الأردن، لا تريد أنقرة التدخل في سورية بسبب خوفها من وقوع الاعتداءات الإرهابية على أراضيها، ولسخرية القدر باتت ترى في الأكراد- أعداءها التاريخيين- أفضل حلفائها بوجه احتواء "الدولة الإسلامية".

وبسبب ما يعانيه لبنان والعراق من عجزٍ وانقسامات داخلية فإن البلدين عاجزان عن التدخل في سورية، باستثناء الجهات الحكومية الفرعية كـ"حزب الله" الذي نسّق في الوقت نفسه مع الحكومة اللبنانية لاحتواء التداعيات القادمة من سورية، ومن جهتها فضّلت إسرائيل البقاء خارج سورية بتفضيلها [اتباع سياسة] الاحتواء، باستثناء المساعدات السرية التي قدمتها لبعض الجماعات في الجنوب ومعالجة الجرحى.

وإذا ما استمرت انتصارات "داعش" الأخيرة، فلن يترتب عنها مخاطر إعادة ترسيم حدود "سايكس-بيكو" فحسب بل سيصبح تنظيم "الدولة الإسلامية" والجهاديين بشكل عام الصوت الحقيقي والسلطوي للسُّنة في الشرق الأوسط، فالانتصارات المستمرة للقوات الجهادية تهدد الأنظمة الملكية في الخليج العربي، لا سيما المملكة العربية السعودية التي اضطلعت بالدور السياسي الأول في الإسلام منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 بصفتها حارسة للحرمين الشريفين. إلا أنّ هزيمة القوات الجهادية على يد نظامَي الأسد والمالكي يهدد هو أيضاً بتفجير الأوضاع الداخلية ضد الأنظمة الملكية في الخليج، وبالفعل استغل بعض الحكام النفوذ السلفي والتعاطف العام مع المعارضة السنية السورية كذريعة لعدم التصدي في وقت سابق للشبكات المالية الجهادية.

نظراً للانتصارات التي حققها "داعش" في الآونة الأخيرة، سيكون من التفاؤل اعتبار طموحاته محصورة بإقامة الخلافة بين دجلة والفرات، فقد نقل "الدولة الإسلامية" قواته نحو الحدود الأردنية والسعودية في حين نفّذ عناصر التنظيم هجوماً ناجحاً هذا الأسبوع على مواقع الجيش اللبناني عند الحدود مع سورية واحتجزوا أسرى أيضاً. وفي غضون ذلك، يقول المحللون والمسؤولون الأوروبيون والأميركيون إنّ المئات- إن لم يكن الآلاف- من مقاتلي "داعش" و"القاعدة" في سورية و"الدولة الإسلامية" يخططون على الأرجح للقيام باعتداءات في بلدانهم أو في أماكن أخرى. ومن بين هؤلاء محسن الفاضلي، الرئيس الأسبق لشبكة التسهيل الإيرانية التابعة لتنظيم "القاعدة"؛ وسنافي النصر، زعيم "لجنة النصر" السورية التابعة لتنظيم "القاعدة"؛ ووفا السعودي، الرئيس السابق للأمن ومكافحة التجسس في "القاعدة"؛ فضلاً عن العضو المؤسس في تنظيم "القاعدة" فراس السوري. وقد أفادت التقارير أيضاً أن عناصر من "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" موجودون في سورية، الأمر الذي يدل على تنامي فرصة الاتصال والتنسيق والتخطيط والتزامن مع "جبهة النصرة" والجهاديين الآخرين. ومع الأخذ بعين الاعتبار وحدات الجهاديين الوطنية من الصين والقوقاز وليبيا ومصر والسويد وما بعدها، يصبح "الدولة الإسلامية" بالفعل النسخة التالية من "المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية" في أفغانستان أو باكستان بحيث تصبح ملاذاً آمناً دائماً وأرضاً لتدريب الإرهاب الإسلامي العالمي.

ونظراً لتوطيد مكاسب "الدولة الإسلامية" وعدم اهتمام جيرانه أو عدم قدرتهم على اقتلاع هذا التنظيم في العراق وسورية، يحتمل أن يصمد "داعش" في غياب سياسة أميركية أكثر حزما وتنسيقاً تشمل عمليات عسكرية وسياسية، ولن يشكّل العمل مع إيران وعملائها في حكومتَي المالكي والأسد أيّ حلٍّ للمشكلة بسبب ضعف القدرات العسكرية لدى الدولتين، وكذلك بسبب تشجيع الأعمال الوحشية الطائفية ضد السنة في كلا البلدين، وفي حين قد تكون إيران وحلفاؤها جبهةً محايدة أمام توسع "داعش"، فإن تقوية إيران وحلفائها الآن سيكون بمثابة صبّ الزيت على النار الطائفية.

إذا كانت واشنطن تسعى إلى إيجاد "المعادلة التي تلبي تطلعات" السُّنة كما وصفها الرئيس أوباما خلال مقابلة أخيرة له مع صحيفة نيويورك تايمز، أو "التوازن الجيوسياسي" بين إيران والعرب الذي كان قد أوضحه في الخريف الماضي، فسوف تكون واشنطن بحاجة إلى العمل مع الحلفاء في العراق ودول الخليج العربي لتهدئة التوترات وأخذ السنة في سورية والعراق في اتجاهٍ أكثر اعتدالاً. ولا يخفى أن هذه المهمة ستكون شاقةً للغاية؛ فالجهاديون لا يزالون يرددون أنّ أميركا تشن حرباً على السنة منذ أحداث 11 سبتمبر، ويرى الكثيرون أنّ للرئيس أوباما معايير مزدوجة في قراره بتسليح الأكراد ومنع "الإبادة" الجماعية للأيزيديين في حين يرفض منذ ثلاث سنوات تسليح المعارضة ذات الأغلبية السنية في سورية- التي لا يزال يصرف النظر عنها باعتبارها مكونة من "أطباء ومزارعين وصيادلة"- ويطبّق خطه الأحمر على نظام الأسد من جراء استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين.

وقد تشمل هذه الأخيرة الضغط على حكومة المالكي لتكون أكثر "شمولاً" مع دعم التغيير في تلك الحكومة، بالإضافة إلى العمليات العسكرية الخاصة، وسيعتمد نجاح هذا البرنامج إلى حدٍّ كبير على درجة التعاون والتنسيق مع الحلفاء السنّة في المنطقة، فالحكومة السعودية التي كانت قلقة من التدخل الأميركي في العراق، يجب أن تقتنع بأن واشنطن ستلتزم بدعم السنّة غير الجهاديين في العراق وسورية عسكرياً (عبر التدريب) وسياسياً (في ما يتعلق بالحكومتين المدعومتين من إيران في العراق وسورية). كما أن السنة السوريين والعراقيين الذين يشعرون بخوفٍ وجودي من العمل ضد "داعش" يحتاجون إلى الاقتناع بأن مثل هذا البرنامج ينطوي على احتمالٍ كافٍ بالنجاح ليخاطروا بحياتهم وبحياة عائلاتهم، ولحسن الحظ أنّ دول الخليج العربي تملك علاقات طويلة الأمد مع القبائل الموجودة في مناطق نفوذ "داعش"، ناهيك عن محافظ مالية كبيرة، وبدلاً من الاعتماد عليها لإنشاء فرقة مماثلة لـ"قوة القدس" من أجل تدريب ودعم السنّة المعتدلين في سورية والعراق، يجب على الولايات المتحدة أن تلعب هذا الدور من خلال التعاون مع وكالات الاستخبارات العربية لتنسيق جهودها وتوجيهها من أجل دعم البديل السني المعتدل والقابل للاستمرار الذي سيملأ الفراغ بعد هزيمة "الدولة الإسلامية".

وبالنسبة إلى واشنطن قد تساهم هذه الجهود في إرساء الاستقرار في دولتين ضعيفتين ومفككتين فعلياً، وبالنسبة إلى الحلفاء العرب يمكن أن تمثل تلك الجهود فرصة لمساعدة القوات المعتدلة في وضع حدٍّ للتطرف السني وللحكومات التي تهيمن عليها إيران في بغداد ودمشق، أما بالنسبة إلى الشعب الأميركي فسيكون الاحتمال ضئيلاً بأن يجتاح جنوده دولة أخرى في الشرق الأوسط في أعقاب هجوم إرهابي ضخم آخر.

* أندرو جيه. تابلر

back to top