كرامة...!

نشر في 25-04-2014
آخر تحديث 25-04-2014 | 00:01
 صابر ملوكة تطلع من نافذة حجرته الواسعة المطلة على ميدان الاسماعيلية في ضاحية مصر الجديدة. رأى الشمس وهي تتوارى خلف البنايات المتلاصقة. تطلع إلى الميدان الذي فقد طابعه المعماري منذ أن مزقته خطوط المترو المتقاطعة والتي يتجنب النظر إليها كلما أطل من النافذة. عاد إلى كرسيه المتأرجح، تطلع الى الكتب المتناثرة في كل مكان، تمتلأ بها مكتبته ولا تملأ جمجمته، هي كل ما ورثه عن  والده. يعتقد أنه كلما ازدادت ثقافة المرء ازداد بؤسه. لفت نظره العنوان الرئيسي لجريدة الأهرام الملقاة على الأرض منذ الصباح: "حزب الدستور يُعلن رسميا دعم صباحي في انتخابات الرئاسة". همهم: "ما جدوى الأحزاب في بلد لا يستطيع نصف سكانه القراءة و لايتفق فيه اثنان على أمر؟ فقط أولئك الذين يفكرون ويشعرون ويعملون معا يصنعون الحضارة".

لم يجد لديه بن كاف لصنع قهوة الصباح، نزل الى الشارع وهو يتلكأ، وجد في جيبه ما يكفي ليشتري البن، رأى بواب العمارة يجلس شاردا أمام تلفاز صغير بالابيض والاسود تكاد لا ترى تفاصيل صورته. يعلو صوت المذيع في ثقة يحسد عليها: "واشنطن تعلن انها لا تنحاز لمرشح على حساب آخر". ينفث البواب دخان الأرجيلة في تعجل وضجر. لاحظ شروده فسأله عما به، قال: لقد حلت مصيبة بأسرة أخي الذي يعيش في "دلجا" في محافظة المنيا. سرح قليلا وهمس: نعم يتكدس في هذه القرية  مئة وعشرون ألفا من البشر يلعقون الصخر ليبقوا علي قيد الحياة ويتقاسمون لقمة العيش الممزوجة برائحة اليأس. مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون في مكان واحد لكنهم لا يعيشون في زمان واحد كما قال الساخر جلال عامر.

ترك البواب قبل أن يسمع جوابه وتابع طريقه الى الحانوت المواجه لمنزله اعترضته صورة كبيرة للسيسي قائمة وسط الميدان ومكتوب عليها: "حملة كمل جميلك. نؤيد السيسي رئيسا". يجلس تحتها طفل يستجدي المارة. رأى جارته تسير قبالته في نفس الاتجاه ، نظر تجاهها، ابتسمت له. هي غير جميلة ولكنها حلوة اللسان. هي لا تروق لأخته وهذا لا يهمه. دائما يردد لنفسه القلب الجميل احلى من الوجه الجميل ومن يحب الشجرة يحب أغصانها. رغب في التحدث إليها، فوجئ بمسيرة تأتي من الناحية الغربية للميدان، يبدو على المشاركين فيها العصبية وهم يهتفون: "الشرعية الشرعية.. يسقط يسقط حكم العسكر.." كل مايتمناه الآن هو فنجان قهوة، دلف بسرعة الى الحانوت واشترى القهوة. اختفت جارته خلف جموع المتظاهرين. ندم لأنه لم يتبعها.

عاد إلى منزله. البواب مازال في شروده ، ونظره ممتد إلى لا شيء. أكمل حديثه عما أصاب أخيه. قبض الرجل على كيس البن وسأله وهو يتصنع الاهتمام: وماذا حل به؟. قال الرجل وقلبه ينفطر من الألم: لقد هرب حماره. لم يفهم ولماذا يكون هروب الحمار بهذه الاهمية. قال البواب لقد كان الحمار مصدر رزقه الوحيد لديه. الآن العربة ملقاة بدون الحمار. سأله ولماذا هرب الحمار؟ أجابه البواب: لا أحد يعلم، تم استئجاره يوما من قبل منظمي إحدى الحملات الانتخابية، ثم أعادوه آخر اليوم ولكنه اختفى ليلتها. قيل له إنه غير معتاد على الصخب المصاحب للدعاية الانتخابية ولعله شعر بالمهانة لاشتراكه في الدعاية لشخص غريب لا يعرفه، وهو الذي اعتاد أن يهلل لرؤية صاحبه وينظر له بامتنان عندما يقدم له العلف.

صعد بسرعة إلى غرفته وأعد قهوته، ثم أطفأ مصباح الغرفة وجلس يحتسي القهوة ويستمتع بكونه لا يرى شيئاً.

back to top