هل تعود الولايات المتحدة إلى سياستها الخارجية الجيفرسونية؟

نشر في 27-10-2013
آخر تحديث 27-10-2013 | 00:01
لا شك أن فكرة أن المحيطات كانت ستحمي الأميركيين ما هي إلا وهم، فإن سيطرت قوة أوروبية واحدة على كامل أوروبا فستتمتع بقدرة هائلة على بناء الأساطيل، ولربما كانت أميركا ستنجح في مضاهاتها أو ربما لا. إذن، كانت المخاطر تفوق فوائد الالتزام بشكل أعمى بمبدأ جيفرسون.
 ستراتفور . بعد أن ناقشتُ أخيراً وجهة النظر التي كان الآباء المؤسسون سيتبنونها تجاه أزمة الدين الأميركية وتعطيل الحكومة، ظننتُ أن من المفيد التأمل في وجهة نظرهم من السياسة الخارجية، أشرتُ إلى أنهم كانوا يتبعون مبادئ واضحة في السياسة الخارجية، ولكن بخلاف عقيدتهم، لم تكن هذه المبادئ يوماً آلية وجامدة، فقد اقتضت مبادئهم هذه أن يسدد الرجل النبيل ديونه، وألا يراكمها عادة. رغم ذلك، نصت إحدى المواد الدستورية على أن الدين ضروري أحياناً. إذن، كان الآباء المؤسسون يخشون الدين المفرط ويكرهون عدم السداد، بيد أن مبادئهم لم تكن جامدة بالكامل.

كلما دار حوار حول الأطر العامة التي حددها مؤسسو السياسة الخارجية الأميركية، اعتُبر حض توماس جيفرسون على تفادي الالتزامات والتحالفات المبدأ الأساس. أعتقد أن هذا منطقي، بما أن جورج واشنطن نفسه عبر عن شعور مماثل. صحيح أن البعض فضلوا فرنسا على بريطانيا خلال حروب الثورة الفرنسية، إلا أن الحياد ظل الدافع الرئيس وراء السياسة الخارجية الأميركية، وهنا ينشأ السؤال: كيف يوجه هذا المبدأ الولايات المتحدة اليوم؟

مسألة عملية

على غرار كل المبادئ الجيدة، تنبع دعوة جيفرسون إلى تفادي الالتزامات الخارجية من واقع عملي. كانت الولايات المتحدة ضعيفة، وقد اعتمدت بإفراط على الصادرات، خصوصاً الصادرات إلى بريطانيا، وما كانت بحريتها قادرة على ضمان أمن ممراتها المائية، التي خضعت لسيطرة البريطانيين، علماً أن هؤلاء واجهوا أيضاً منافسة من الفرنسيين، ولو أن الولايات المتحدة وقفت إلى جانب فرنسا ضد بريطانيا لدمر ذلك اقتصادها وأشعل حربا ثانية مع بريطانيا. في المقابل، كان دعم بريطانيا بإفراط سيعيد الولايات المتحدة إلى الوصاية البريطانية.

كان تفادي الالتزامات الخارجية مبدأً مفيداً في ظل غياب استراتيجية بديلة جيدة. رغم ذلك، كان جيفرسون نفسه مَن خطط لتدخل كبير في الشؤون الأوروبية بشراء مقاطعة لويزيانا من فرنسا. لم ينوِ جفرسون في البداية شراء المقاطعة بأكملها, بل رغب في شراء نيو أورلينز، التي تناقلت إسبانيا وفرنسا ملكيتها، والتي شكلت مرفأً بالغ الأهمية للوصول إلى خليج المكسيك ونظام أنهر المسيسيبي وأوهايو وميسوري. شعر جيفرسون أن نابليون قد يبيع نيو أورلينز ليمول حربه في أوروبا، لكنه تفاجأ حين عرض عليه نابليون بيع كل ما تملكه فرنسا في أميركا الشمالية مقابل 15 مليون دولار. ولا شك أن هذه الخطوة كانت ستبدل ميزان القوى في أميركا الشمالية بالحد من الطموحات البريطانية، فتح طريق خليج المكسيك إلى المحيط الأطلسي أمام الولايات المتحدة، وتزويد فرنسا بالمال الضروري لتشن حروبها.

في تلك الفترة لم تشكل تلك الخطوة عملاً بارزاً في حروب نابليون الدائرة، ولكنها لم تكن أيضا عملاً يتلاءم مع مبدأ تفادي الالتزامات الخارجية. فقد حملت هذه الصفقة خطر جر الولايات المتحدة إلى حروب نابليون، نظراً إلى رد الفعل البريطاني. وهذا ما حدث بالتحديد، فعقب هزيمة نابليون بعد عقد تقريباً، انقلب البريطانيون على الولايات المتحدة بعرقلة عمل السفن الأميركية، وعندما رد الأميركيون، شنت بريطانيا حربا عام 1812، حرقت أثناءها واشنطن وحاولت السيطرة على نيو أورلينز بعد انتهاء الحرب رسمياً.

إذن، أقدم جيفرسون على خطوات أقحمت الولايات المتحدة في شؤون الآخرين وفي مخاطر لم يتوقعها على الأرجح، مع أن هذا بالتحديد أحد أسباب تفاديه الالتزامات الخارجية في المقام الأول. لكنه اتخذ هذه الخطوات، مخالفاً مبادئه الخاصة.

وسبب ذلك بسيط: نظرا إلى التطورات التي كانت تشهدها أوروبا، أتيحت له فرصة فريدة ليسيطر على قلب القارة الأميركية الشمالية. كانت هذه الفرصة ستعيد تحديد هوية الولايات المتحدة، صحيح أنها حملت معها المخاطر، إلا أن المكاسب كانت أكبر بكثير، ما دفعه إلى تقبل هذه المخاطر، فأدرك جيفرسون أن الولايات المتحدة متورطة أساساً في الشؤون الأوروبية بحكم وجودها، وعندما تنتهي حروب نابليون، كانت فرنسا وبريطانيا ستحتفظان بلويزيانا. وستواجه الولايات المتحدة في هذه الحالة تهديدات من المحيط الأطلسي في الشرق ومن سائر أجزاء القارة من الغرب. وفي ظل ظروف مماثلة، كانت ستُضطر إلى النضال من أجل البقاء. نتيجة لذلك، اعتبر جيفرسون أن الأميركيين متورطون أصلاً في هذه المسألة، ما دفعه إلى محاولة الحد من الخطر.

وهم العزلة

واجهت الحكومة الأميركية هذه المشكلة منذ الحرب العالمية الأولى، وتدخلت في هذه الحرب بعد أسابيع قليلة من تنحي القيصر الروسي وشن ألمانيا الحرب على دول محايدة. ما كانت الولايات المتحدة تستطيع تحمل كلفة خسارة منفذها إلى المحيط الأطلسي، وإذا انسحبت روسيا من الحرب، فقد تصب ألمانيا كل تركيزها على المناطق الواقعة غربها، وإن حققت الانتصار في الغرب، فستتمتع ألمانيا بالموارد الروسية والقدرات الصناعية الفرنسية، ولا شك أن ذلك سيشكل خطراً على الولايات المتحدة. حاولت هذه الأخيرة أن تبقى حيادية بادئ الأمر، إلا أنها أُرغمت بعد ذلك على تحديد مقدار المخاطر الذي تستطيع تحمله. نتيجة لذلك، اختارت الحرب.

رفض أنصار العزلة خلال الحرب العالمية الثانية التدخل في أوروبا (كانوا أكثر انفتاحاً على فكرة وقف اليابانيين في الصين)، لكن رفضهم هذا ارتكز على افتراض أن السوفيات والفرنسيين سيصدون ألمانيا، ولكن مع التحالف مع السوفيات، والأهم من ذلك، انهيار فرنسا وغزو الاتحاد السوفياتي، تبدلت الحسابات، ففي أسوأ الأحوال، كانت هزيمة الاتحاد السوفياتي ووصول حكومة موالية لبرلين إلى الحكم في بريطانيا سيمنحان الألمان قوة أكبر بكثير، مقارنة بما تتمتع به الولايات المتحدة. وإذا اجتمعت الفيالق الألمانية مع الفرنسية والبريطانية، فستهدد بالتأكيد السيطرة الأميركية في المحيط الأطلسي في وقت كانت فيه اليابان تبسط سيطرتها على غرب المحيط الهادئ.

نشأت مشكلة مماثلة خلال الحرب الباردة، ولم تثق الولايات المتحدة آنذاك بقدرة ميزان القوى الأوروبي على احتواء الاتحاد السوفياتي. فسبق أن أخفق ميزان القوى هذا مرتين، ما أدى إلى تحالفات أقحمت الولايات المتحدة في شؤون دول أخرى. أشارت حسابات أميركا إلى أن الالتزامات الباكرة أقل خطورة من اللاحقة، فبدت هذه الحسابات انتهاكاً لمبدأ جيفرسون، ولكن كما كانت الحال مع لويزيانا، شكلت هذه الحسابات في الواقع خطوة حكيمة حذِرة تندرج ضمن إطار مبدأ جيفرسون.

اعتبر البعض حلف شمال الأطلسي انتهاكاً لنظرة الآباء المؤسسين إلى السياسة الخارجية الحذرة، إلا أنني أعتقد أن هذا الرأي يسيء تفسير معنى تصريحات جيفرسون وواشنطن على حد سواء، ولا شك أن تفادي الالتزامات والتحالفات مبدأ يجب أن يؤخذ في الاعتبار، ولكن من الضروري إلا يُسمح له بتهديد المصالح القومية. فقد مضى جيفرسون قدماً في عملية شراء لويزيانا المعقدة والخطرة لأنه ظن أنها تحمل مخاطر أقل من إبقاء هذه المنطقة بين أيدٍ أوروبية.

صحيح أن مَن خلفوه واجهوا حروباً بسبب عملية الشراء هذه، غير أن جيفرسون كان مستعداً لاتخاذ قرارات حذِرة، وعلى نحو مماثل، أدرك وودرو ويلسون، وفرانكلن روزفلت، وهاري ترومان أن تفادي الالتزامات الخارجية مستحيل؛ لذلك حاولوا الحد من المخاطر المستقبلية.

يجمع قاسم مشترك بين لويزيانا، والحربين العالميتين، والحرب الباردة: كانت المخاطر كبيرة كفاية في هذه الحالات الثلاث، مما فرض القيام بالتزامات خارجية، فكان من الممكن أن تنتهي هذه الحالات بكارثة تزعزع الولايات المتحدة. ولا شك أن فكرة أن المحيطات كانت ستحمي الأميركيين ما هي إلا وهم، فإن سيطرت قوة أوروبية واحدة على كامل أوروبا، فستتمتع بقدرة هائلة على بناء الأساطيل. لربما كانت الولايات المتحدة ستنجح في مضاهاتها أو ربما لا. إذن، كانت المخاطر تفوق فوائد الالتزام بشكل أعمى بالمبدأ.

دور عام

لا تواجه الولايات المتحدة اليوم خطراً وجودياً، غير أن الإسلام السياسي المجاهد يشكل الخطر الأكبر الذي تصطدم به، ولكن مهما بدا مخيفاً، يعجز هذا الخطر عن تدمير الولايات المتحدة، إلا أنه قد يقتل عدداً كبيراً من الأميركيين، وهنا يؤدي مبدأ جيفرسون دوراً بالغ الأهمية. يزعم البعض أن الإسلام السياسي المجاهد ما كان ليشكل خطراً على الولايات المتحدة، لو أن هذه الأخيرة لم تدعم إسرائيل في الضفة الغربية والهند في كشمير، ولكن لا ينبع الخطر الإسلامي، في رأيي، من أي علاقة محددة للولايات المتحدة أو من احترام الإسلاميين المبادئ الإسلامية التي يتبعونها. على العكس، يعود هذا الخطر إلى الدور العام الذي تلعبه الولايات المتحدة كدولة غربية رائدة. ولا شك أن فكرة أنها تستطيع تفادي الأعمال العدائية بتغييرها سياساتها لا تأخذ في الاعتبار واقع أن مخاطر اليوم تنشأ بمعزل عن السلوك الأميركي، تماما مثل مخاطر عام 1800.

لكن الإسلام السياسي المجاهد لا يهدد وجود الولايات المتحدة، وهنا ينشأ السؤال: كيف نطبق المبدأ الجيفرسوني في هذا الإطار؟ يؤدي التطبيق الدقيق لهذا المبدأ، مع أخذ كل المخاطر والمكاسب في الاعتبار، إلى ما يلي: من المستحيل إنزال هزيمة عسكرية كاملة بالإسلام السياسي المجاهد، غير أننا نستطيع تفادي الخطر الذي يشكله. وتشمل عملية التفادي هذه مخاطرها الخاصة، خصوصا مع تنفيذ الولايات المتحدة عمليات لا تقضي على الإسلاميين المجاهدين، بيد أنها تضعف الهندسة الجيو-سياسية للعالم الإسلامي، علماً أن هذا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة.

كان جيفرسون ينظر دوماً إلى الخطر الرئيس، فقد اعتبر تأمين الخطوط البحرية ونظام الأنهر الداخلي بالغ الأهمية. كان من الممكن، في رأيه، تجاهل المسائل الأخرى، لكن التحدي الحقيقي الذي يكمن أمام الولايات المتحدة اليوم يشمل تحديد الخطر الناشئ والتعاطي معه بحزم، فكم كان العالم سيتجنب من مآسٍ لو أن هتلر دُمر عام 1936؟ ولكن مَن كان يعلم عام 1936 حجم المآسي التي سيسببها هتلر؟ باتت هذه الأفكار واضحة اليوم لأننا ننظر إليها بعد انقضائها.

رغم ذلك، يبقى المبدأ ذاته، إذ أراد جيفرسون تفادي الالتزامات الخارجية، إلا في الحالات التي شملت مكاسب كبيرة تعزز المصالح القومية الأميركية، فكان مستعداً في هذه الحالات إلى تطبيق مبدئه بطريقة مختلفة. إذن، من الضروري فهم مبدأ تفادي الالتزامات الخارجية كمبدأ أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، تماماً مثل كل المبادئ المتقنة. فمن الضروري تفادي الالتزامات الخارجية عندما تكون النتائج تافهة ومستحيلة، ولكن إذا أُتيحت أمامنا فرصة شراء لويزيانا، يفرض علينا هذا المبدأ التدخل.

وكما في المسائل الداخلية، تُعتبر العقيدة سهلة، إلا أن المبادئ صعبة، فيمكننا التعبير عن هذه المبادئ بكلمات قليلة، ولكن من الضروري تطبيقها بكل تعقيداتها.

George Friedman جورج فريدمان

back to top