الولايات المتحدة... من العولمة إلى العزلة

نشر في 25-12-2013
آخر تحديث 25-12-2013 | 00:01
 هافينغتون بوست تتعرض الولايات المتحدة غير الواثقة من دورها العالمي الذي عززته لضغوط دولية وداخلية لتعيد النظر في التزامها كشرطي العالم. فعلى الصعيد الدولي، حدد دور الشرطي هوية الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أما على الصعيد الداخلي، فكان لأهمية لعب دور الشرطي، فضلا عن الخطاب الوطني الذي نبع منها، تأثيرات إيجابية كبحت حلم الولايات المتحدة الدائم بالعزلة.

استند ميل الولايات المتحدة إلى العولمة بعد الحرب إلى خمس قواعد أميركية غير مكتوبة:

• أن قواعد اللعبة ستكون قواعد الولايات المتحدة التي تُطَبق بذكاء.

• أن الولايات المتحدة، بصفتها القوة العظمى الوحيدة، ستعمل كشرطي دولي حيادي يسعى لحماية التجارة العالمية وتعزيزها.

• أن مواطني الولايات المتحدة سيفهمون أن البلد الذي يحدد القواعد في هذا المد المتنامي من الازدهار العالمي سيحقق مكاسب أكبر نسبياً، مقارنة بالدول الأخرى. لذلك يجب ألا يشعروا بأنهم مهددون مع بروز قوى اقتصادية جديدة.

• أن القادة السياسيين الأميركيين سيتقبلون فكرة أن شركة "كرايسلر" التي تملكها "فيات" ليست شركة أميركية ولا إيطالية، بل عالمية.

• أن القيادة الأميركية بقبولها بهذا المفهوم تقنع شريحة الشعب الأميركي التي لا تستفيد مباشرة من العولمة بأن الأمور تسير على خير ما يُرام.

لكن نجاح العولمة الكبير في رفع مئات الملايين من حالة الفقر، بالإضافة إلى إخفاقاتها، والركود الاقتصادي، وعجز الدول النامية عن حماية عمالها، جعل بعض هذه القواعد بالية، حتى إنها تبدو اليوم ساذجة سياسياً. لكن نجاح هذه القواعد بحد ذاته وضع تحدياً مباشراً وغير مألوف أمام دور الولايات المتحدة البارز كشرطي: تريد أمم الأسواق الناشئة اليوم، نظراً إلى ثقلها الاقتصادي الجديد، تحديد مَن يضبط الأوضاع وأين. فقد فرضت العولمة اعتبار أن حجم السوق وثباتها باتا عنصرين أساسيين في تحديد قوة الأمة. وفي ظل حماية المظلة الأميركية العالمية، ازدهرت الصين، والهند، والبرازيل، ودول أخرى وتحولت إلى اقتصادات عملاقة. صحيح أن الولايات المتحدة ازدادت ثراء، ولكن مع بروز تلك الدول العملاقة اقتصادياً تقلص ثقل واشنطن الاقتصادي العالمي نسبيا. نتيجة لذلك، تراجع اقتصاد الولايات المتحدة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فانخفض إلى 22 في المئة اليوم بعد أن كان 31 في المئة عام 2000.

تكمن المفارقة في أن إنتاج الطاقة المتنامي في الولايات المتحدة يُفاقم هذا التحدي. فيولد هذا الوضع معضلة غريبة: يحرر تنامي الاستقلال الأميركي في مجال الطاقة الولايات المتحدة من اعتمادها الاقتصادي العالمي، إلا أنه يُضعف أيضاً نفوذها في العالم.

من الطبيعي أن يؤدي الاستقلال الأميركي هذا إلى تراجع واردات الولايات المتحدة في مجال الطاقة، لكنه يبدل أيضاً عادات هذا البلد الشرائية الدولية في مجالات الصناعة الثقيلة، والمواد الكيماوية، والمنتجات الأساسية الأخرى. فقد مكن الغاز الطبيعي المحلي البخس الثمن الولايات المتحدة من أن تصبح منتجا لهذه المواد لا يتكبد كلفة عالية، ما حد بالتالي من الحاجة إلى الاستيراد.

سيؤدي تراجع الواردات، سواء في مجال النفط أو المواد الكيماوية أو المعدات الصناعية الثقيلة، إلى انخفاض ما يُعرف بـ"قدرة المستهلك الشرائية"، ولكن في ظل لعبة السوق التي تعتمد على العولمة، ينبع جزء من القدرة الأميركية من واقع أنها المستهلك الأكبر في العالم، وضع يُعتبر نقيض ما نشهده في ألمانيا اليوم. فقد حققت الولايات المتحدة مع عجزها التجاري وقدراتها الشرائية الكبيرة نفوذاً اقتصادياً عالمياً ضخماً. ولكن مع تراجع مشتريات الولايات المتحدة العالمية اليوم بسبب مواردها الجديدة في مجال الطاقة، تخسر تلقائياً نفوذ المستهلك القوي الذي ينبغي أن ترعاه سائر دول العالم.

على الصعيد المحلي، لا شك في أن الاستقلال في مجال الطاقة والإحساس الخاطئ بالأمان الذي ولّده هذا الاستقلال، فضلاً عن فرض الكونغرس ضوابط على الموازنة، سيُعززان ميلاً جديداً نحو العزلة. أضف إلى ذلك التعب العالمي والانزعاج والشعور الغريب الناجمين عن مشاطرة النفوذ مع دول أسواق ناشئة، وستفهم سبب اعتبار أميركيين كثر أن العولمة أساءت إلى خيرهم وخير بلدهم الاقتصادي.

بدأنا نلحظ اليوم ميلاً إلى العزلة في رد فعل بعض أعضاء الكونغرس تجاه التصويت المقترَح بشأن المسألة السورية. ففي زمن تتراجع فيه التهديدات الأمنية المباشرة، يُعتبر السؤال الأسهل الذي يستطيع عضو الكونغرس طرحه ويكون الجواب السياسي عنه صعباً: ما العائدات التي يجنيها دافعو الضرائب الأميركيون من مواصلة الولايات المتحدة دورها كشرطي ليبرالي مهيمن؟

سيدفع تراجع الحاجة والنفوذ الاقتصاديين واشنطن إلى إعادة النظر في التزامات الولايات المتحدة العالمية. لكن العزلة والانسحاب يولدان المزيد من الانسحاب. وإذا قررت الديمقراطية الأميركية أن من مصلحتها الحد من دورها كشرطي مهيمن، تكون قد منحت ضمناً دولاً أخرى حق الانسحاب من الطاولة التكتيكية المستديرة التي تُدعى العولمة.

ومع هذه التبدلات، سيختبر المشهد العالمي التغيير الأكبر الذي شهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يولد عالماً أكثر خطورة، عالماً شبيهاً بعالم ما قبل الحرب العالمية الأولى وقوميته الاقتصادية.

Edward Goldberg إدوارد غولدبيرغ

back to top