محمد المقريف... معركتي من أجل الحرية (1-2)

نشر في 12-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 12-02-2014 | 00:01
أشهر معارضي القذافي يروي معاناة النشأة والغربة والنصر

بعد 31 سنة في المنفى، عاد الرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام في ليبيا د. محمد المقريف إلى طرابلس في 20 أكتوبر عام 2011، يوم مقتل معمر القذافي. يتحدث في كتابه المعنون Mon Combat Pour La Liberté {معركتي من أجل الحرية}، عن معاناة الليبيين بسبب دكتاتورية القذافي ويقول: {يؤسفني أن يُضطر الضحايا وعائلاتهم إلى الاكتفاء بموته كتعويض عما لحق بهم.
بموته حمل معه أسراره وجرائمه كلها وكرهه إلى القبر».
في ما يلي الحلقة الأولى من عرض لكتابه «معركتي من أجل الحرية».
*الفصل الأول*

    

ليل الخميس الواقع فيه 9 أغسطس عام 2012، كان الحر خانقاً في طرابلس. في صالة البرلمان، كنت أنتظر مع المقربين مني النتائج. بدا التصميم الداخلي مذهلاً. فقد غطى الجدران بياض ناصع جعل الصالة تبدو هائلة الحجم. كنا نحن ثلاثين شخصاً. ألفت جيداً تلك الوجوه المبتسمة والقلقة أحياناً. جلست وأعصابي مشدودة بعض الشيء. لكن الإجهاد لم يكن السبب. رأيت حياتي تمر أمامي كما لو أنها شريط مصوّر. فقد جُزّئت كل مرحلة من هذه المعركة المستمرة ومرّت أمامي ببطء ودقة مذهلة. تذكرت التفاصيل كافة التي نسيتها. وما عدت أعرف ما إذا كانت ذكرياتي صحيحة أو أنها من ثمار مخيلتي. عندما أعود بشريط حياتي إلى الوراء، ألاحظ أن حياتي لا تشبه حياة أي إنسان آخر. لذلك تملكتني الرغبة في تدوين هذه القصة، قصتي. فعندما أشارك الآخرين فيها، تغدو أكثر واقعية بالنسبة إلي، وربما أكثر واقعية أيضاً. لا نكفّ عن التعلّم وعن الازدياد نضوجاً. يعبّر الإنسان خلال حياته في مراحل عدة تشكّل بحدّ ذاتها حيوات منفصلة. أما حياتي، فتبقى حياة رجل مثالي قدّم كل ما يملك في سبيل أحلامه.

همس ابن أخي محسن في أذني، مؤكدّاً أن الأمور كافة ستسير على خير ما يُرام. ظنّ على الأرجح أنني كنت قلقاً، إلا أنه كان مخطئاً. فقد ترشحت في هذه الانتخابات ولي ملء الثقة من أنني لن أفوز بها. أقدمت على هذه الخطوة من أجل مَن آمنوا بي منذ البداية، مَن دعموني في المنفى، مَن أوصلوني إلى السلطة، ومَن دعموني لأواصل النضال. أرادوا أن أترشح، فأقدمت على هذه الخطوة لأعرب لهم عن مدى امتناني وشكري. فالفوز في الانتخابات ليس الهدف. تبقى المعجزة الحقيقية سقوط القذافي. كنت قد بلغت مرحلة فقدت فيها كل أمل. ولكن ها أنا اليوم هنا في هذا البرلمان.

عندما نكون في حالة ترقب وانتظار، يطول الوقت: تتحوّل الدقائق إلى ساعات والثواني إلى دقائق. وتظل الشمس مشرقة، كما لو أنها تنتظر هي أيضاً النتائج. ثم يعلو صوت المؤذن. فشعرت أنه وسيلة خلاص. تساعدني الصلاة على التفكير. ما كنت أرغب في التحدث إلى أحد: لكني أستجيب دوماً لنداء الله. أسلم أمري دوماً لربي. فعلاقة بالقدير قوية جدّاً: أخبره أسراري وهو يعرف أعمق أعماقي. انعزلت عن المجتمعين لأصلي. حين رجعت إلى الصالة، أسفت على الصمت والنقاوة اللذين نعمت بهما خلال تضرعي لله. وددت البقاء وحيداً. ولكن ما إن خطرت هذه الفكرة على بالي حتى بدّلت رأيي، لأن العزلة في لحظة مماثلة كانت ستذكرني بالمنفى. راح المقربون مني يكلمونني، إلا أنني لم أسمع إلا نصف ما قالوه. ما كانت النتائج تشغل بالي. لم أنظم الحملات أو أروّج لانتخابي. ولم أتوانَ عن الإفصاح عما يثقل قلبي.

صدرت النتائج بعد نحو 22 ساعة. لم يهلل المقربون مني لانتصارنا. لم أسمع صيحة فرح، بل كان الجميع يقيسون صعوبة ما تبقى علينا إنجازه، فمن الضروري بناء كل شيء. عادت إلي ذكرياتي مع والدتي حين كانت امرأة سعيدة محاطة بكل أولادها. اغرورقت عيناي بالدمع، وطلبت سرّاً من فاضل، صديقي الحميم منذ أكثر من أربع وعشرين سنة، فتح النافذة. فلاحظ أن عينيّ احمرتا، إلا أنه تصرف بلباقة وذكاء، متفادياً لفت أنظار الآخرين، واكتفى بالتربيت بمحبة على كتفي. أدرك الأحاسيس التي كانت تخالجني. لم نتفوه بأي كلمة، فالكلمات تكون أحياناً عقيمة. هل غفرت لي أمي غيابي الطويل؟ هل كانت تفخر بابنها؟ يبقى الرجل ابن أمه حتى مماتها. وعندما أفكر في والدتي، يعود هذا الرجل، الذي أصبحت عليه في الحادية والسبعين من عمري، ذلك الصبي الصغير الذي يتلو جدول الضرب. بسبب القذافي، عجزت عن شكرها. شعرت في داخلي بصراع قوي أصابني بالصداع. صحيح أنني ظللت الرجل ذاته، ولكن في رأسي كانت الذكريات السيئة والجيدة تتضارب. كان الماضي يتحدى الحاضر، فيما حاول المستقبل التوسط بينهما. كم عبرنا من الدرب! فقد سقط القذافي وتحررت ليبيا، إلا أنها لم تبلغ بعد بر الأمان.

ما زلت أذكر اليوم الذي وطأت فيه قدمي أرض طرابلس، بعد أن أمضيت 31 سنة في المنفى. لم ألحظ أي تغيير، كما لو أنني لم أرحل يوماً. عرفت رائحة تلك المدينة، لون جدرانها، وابتسامة أهلها الدافئة، ابتسامة تخفي وراءها حزناً كبيراً. هنا، فقد الجميع شخصاً عزيزاً على قلبهم، وذاقوا الخوف أو التعذيب. كان شعب بأكمله يحاول النهوض، غير أن المصالحة بدت بعيدة. فهل تتفوق إرادة التوحد على الحقد العنيد؟ عدت إلى طرابلس في 20 أكتوبر عام 2011، يوم مقتل القذافي. لم أشعر بالفرح، لأن الموت كان نعمة لهذا المجرم. فكان يجب أن يدفع ثمن جرائمه، وأن يُحاسب على أعماله. صحيح أنه أفلت من عدالة البشر، غير أنه لن ينجو من العدالة الإلهية، بل سيُرغم على الخضوع لها. يؤسفني أن يُضطر الضحايا وعائلاتهم إلى الاكتفاء بموته كتعويض عما لحق بهم. بموته حمل معه أسراره وجرائمه كلها وكرهه إلى القبر.

في التاسع من أغسطس عام 2012، لم يكفّ هاتفي عن الرنين بسبب الاتصالات المتواصلة. إلا أنني همت في ذكرياتي ورفضت الإجابة. احتجت إلى تنظيم أفكاري. تبدأ الثورة من العقل. صحيح أن ليبيا تحررت، إلا أنني بقيت أسير أوهامي. وكي أتحرر منها علي أن أستعيد ثقتي بنفسي. راودني شك مخيف. هل أكون على قدر المسؤولية؟ وماذا ينتظرون مني؟ ماذا يمكنني أن أقدّم لهم؟ قدّمت ليبيا لي كل شيء، إلا أنها سلبتني أيضاً كل ما أملك. راح الناس يهنئونني وتسابقوا لمصافحتي ومناداتي «سيدي الرئيس». رفضت التغيّر. سأبقى الرجل الذي كنته دوماً مهما حصل. فلن تبدلني السلطة وامتحاناتها البتة. خرجت إلى الشرفة متذرعاً بأن علي الإجابة على الهاتف. كان الهواء ساكناً، وقد رفضت الشمس بعناد الغروب تماماً. رنّ هاتفي، فأجبتُ من دون تفكير. كان المتصل ابني المقيم في دبي. ما زلت أذكر حوارنا: العواطف البادية في صوته، الفخر في كلماته، السعادة في نبرته، والإعجاب في سكوته، كل هذا مسّني في الصميم. فقد تخطينا الصعاب كافة وصرنا أكثر توحدا من أي وقت مضى. قيّمت عندئذٍ ضخامة المهمة التي أوكلت إليّ.

ما كنت قد استوعبت تماماً دوري كرئيس، حين عدت إلى الغرفة وساد الصمت. كانوا ينتظرون مني التكلم. توقعوا أن أُلقي كلمة، كما نرى عادةً في المسلسلات الأميركية. لكنني لست ممثلاً، ولا أستطيع أداء هذا الدور. فهذه مهمة يعتمد عليها مصير بلد وأولاده. تخرج الكلمات وحدها. علي أن أشكرهم الواحد تلو الآخر لأن كلاً منهم مدّني بمساعدة قيمة. أعرف هؤلاء الأشخاص الأربعين كلهم: حياتهم، آلامهم، ندمهم، صفاتهم، عيوبهم... أردت أن أصبح رئيساً يحرص على ألا ينسى أننا نعمل معاً حين نخوض المعارك معاً. أعي أن أعضاء مجلس النواب الذين اختاروني لم ينتقوني بشكل أعمى. وهذا بالتأكيد ما لم أطلبه منهم. عندما تنتهي معركة، يبدأ صراع جديد. أردت أن أعيد لبلدي مكانته على الساحة العالمية. نتمتع بكثير من المزايا، وخصوصاً رجالاً ونساء أعربوا عن الشجاعة وتوقهم إلى الحداثة والحرية. ننعم في ليبيا بموارد طبيعية متنوعة، ما يُعتبر بالتأكيد ميزة إيجابية. لذلك بدا من الضروري أن تولد ليبيا من جديد. رغبت في أن يتحوّل بلدي إلى ديمقراطية منفتحة يسودها التسامح، ديمقراطية يستطيع فيها الجميع التعبير عن آرائهم. أردت تأسيس دولة ليبيا مزدهرة تحلل وتنتقد. صحيح أن الدرب ما زال طويلاً، غير أن تصميم الجميع يستطيع التغلب على الجراح التي لن يشفيها إلا الزمن وحده. كاد هاتفي أن ينفجر. لذلك اضطررت إلى الإجابة. تلقى باراك أوباما لتوه الأخبار عما آلت إليه الانتخابات. كنت أجهل كم الساعة في واشنطن، ولكن في ليبيا كانت الساعة متأخرة، مع أن ليلي كان لا يزال طويلاً. هنأني الرئيس الأميركي بحرارة وسأل عن أحوالي. لم يكن أحد حتى تلك اللحظة قد سألني عن حالي. فاجأني سؤاله هذا. لذلك توقفت قليلاً قبل أن أجيبه. كيف حالي؟ لا أعلم، حتى إنني لم أطرح هذا السؤال على نفسي. لكني أكّدت له أنني بخير كي أتفادى الاستفاضة في الشرح والكلام. هذا ما اكتفيت بقوله لباراك أوباما.

*الفصل الثاني*

وُلدت في 31 ديسمبر عام 1940 في مدينة بنغازي. كان أبي بقالاً وكانت أمي ربة منزل. كنا نقيم في منزل صغير تخترقه الحرارة بسهولة. وقد عمل أبي بنفسه على توسيعه تدريجاً مع تنامي أفراد عائلته. وقد اعتبرنا الجيران جزءاً لا يتجزأ من أسرتنا. نتيجة لذلك، ساد بيننا تكاتف حقيقي. فكان بعضهم يقرضنا الطحين والبعض الآخر الزيت. كذلك كنت ابن كل جاراتنا. في شارعنا الصغير، تعلمت الاحترام، التكاتف، وأهمية العائلة. عندما كنت أسئل في صغري عن عدد إخوتي وأخواتي وأعمامي وعماتي، كنت أعدّ أيضاً الجيران وأصدقاء العائلة. ومرّ وقت طويل قبل أن أعي أنهم لم يكونوا حقّاً من عائلتنا. كان شارعنا كثير التعرجات ومعتماً بعض الشيء. واعتدنا لعب الورق في المساء، فيما كان حكيم، أخو صديقي مراد، يعزف على الغيتار. كان يعزف الألحان الشائعة، ما ساعدنا في حفظ الأغاني الرائجة آنذاك. ما زلت أحتفظ بذكريات جميلة عن تلك الأيام. كانت أمي تهوى الطهو وتحرص على إبقاء منزلها نظيفاً. أعتقد أن همها الأول كان إبعاد كعوب الأحذية عن سجادتها الزرقاء. كم كرهت تلك السجادة! فإذا أخطأنا وسمحنا لألعابنا بأن تطأها أو مشينا عليها وفي قدمينا أي شيء غير جوربين، كانت تهوج وتموج. كنا نملك على الأرجح سجادات أخرى، إلا أن هذه أثرت فيّ على وجه الخصوص. كان أبي وأمي يصليان عليها. واعتدت أحياناً الانضمام إليهما. ما كنت أعرف الصلاة بحد ذاتها. لكنني أحببت طريقة الصلاة. وقد حفظتها عن ظهر قلب، وصرت أكررها في غرفتي في ما اعتبرته آنذاك نوعاً من الخطوات المنسقة. أعتقد أن حبي للإسلام ولد في تلك المرحلة. كنت الولد الثاني في العائلة والصبي الأول.

أراد أبي أن يعلّمني كيف أصبح رجلاً بحق، في حين تولت أمي تعليم أختي كيف تصبح امرأة. في أربعينيات القرن الماضي، كان دور المرأة يشمل تعلّم الطبخ وتنظيف المنزل. أتسأل اليوم كيف تتعلم المرأة الخنوع. لكن أمي لم تكن خنوعة. أدرك راهناً أن الفكرة التي كونتها عن نساء تلك الحقبة كانت خاطئة. فكانت المرأة تدير شؤون المنزل، وتتولى شراء الحاجيات وتعليم الأولاد. وإذا عاكستها الحياة وترملت، فكانت تضطلع أيضاً بدور الزوج. قدّمت لنا أمي كل ما في وسعها. رُزقت بتسعة أولاد. وأعتقد أنها كانت ستنجب المزيد، لو أنها استطاعت ذلك. تألف بيتنا من ثلاث غرف نوم: واحدة لوالديّ وأخرى للفتيات وثالثة للفتيان. كذلك ضمّ غرفة طعام وأخرى للضيوف. وقد مُنعنا من دخول الأخيرة لأنها كانت مخصصة للزوار. كانت الأجمل بين غرف المنزل.

عُلّقت على جدرانها الأطر واحتلت مقاعدها مساند منتفخة، في حين اكتست أرضها بسجادة حمراء. أصبحت رجل المنزل عام 1955، حين أصبح أبي عاجزاً عن العمل بسبب المرض. وفي ليبيا، كما في بعض الدول الأخرى، يخسر الرجل الذي لا يؤمن المال لعائلته الكثير من سلطته. لذلك صرت أعمل في السوق قبل بدء المدرسة وبعدها وفي أيام العطل. لكن أمي ظلت تردد على مسمعي أن مستقبلي يكمن في الكتب لا بين عربات البطيخ والحمير التي تجرها. غير أن العمل سمح لي بتحديد مكاني في هذه العائلة الكبيرة. فما عادت عائلتي تستغني عني. حسمت الأمر: كان من الضروري أن أجد عملاً أفضل حين أكبر. أردت طوال فترة أن أصبح طبيباً. ولكن عندما زرت المستشفى لتقطيب جرح صغير، بدّلت رأيي. فلم أستطع تقبل فكرة إيلام الناس، ولم أتحمل رؤية الدم. رغبت بعد ذلك في أن أصبح شرطيّاً، إنما من دون سلاح، فلم يستهوِني يوماً. لكن هذا مستحيل. وبما أن الفتيات كن يرغبن في تلك الحقبة بامتهان التعليم، فلم أشأ أن أنتقي عملاً مخصصاً لهن، مع أن فكرة مساعدة الآخرين وتعليمهم كانت تروق لي سرّاً. لذلك كنت أساعد أخوتي وأخواتي على إنجاز واجباتهم المدرسية: كنت أطلب منهم أن يتلوا دروسهم، ويقوموا بواجباتهم مرات عدة... كنت شديد التطلب. وكنت أحذرهم دوماً من أنهم إذا أخفقوا في دراستهم، سأرغمهم على مساعدتي في السوق، وكان ذلك الأمر يخيفهم جدّاً.

«ما كان يجب أن يموت»

القذافي... أرى وجهه. أستطيع أن أميّز معالمه: نظرته السوداء، صوته العريض، نبرته الساخرة، عيناه المليئتان بالحقد، يداه الغليظتان، وأصابعه العريضة... لطالما تساءلت عما إذا كان يرتدي قناعاً. ولكن ما من قناع يستطيع أن يعكس كل هذه البشاعة الداخلية: كان هذا وجهه الحقيقي. أعي أن عظمة الإنسان لا تُقاس بعدد مَن قتلهم. العظمة... شعور لم يحس به هذا الرجل، الذي مات مثل الكلب، في أي لحظة من حياته. لم أنسَ أي تفصيل عن هذه الشخصية الشريرة. مات وحيداً بعدما هدر دم عدد مخيف من الأبرياء. تملكني سخط كبير. ما كان يجب أن يموت. أردت أن أقف أمامه مجدداً وجهاً لوجه. رغبت في أن أقول له مرة أخرى إن الحكم بالكره لا يؤدي إلا إلى السقوط بالموت. ما كان القذافي يخيفني، وما كنت أعتبره إنساناً أعلى شأناً. على العكس، جعلني التعليم الذي تلقيته والقيم المغروسة فيّ إنساناً أعلى منه شأناً. لم يجد القذافي استعمال السلطة. عرف السبيل إلى الإمساك والاحتفاظ بها، إلا أنه لم يتقن استخدامها. ما كان القذافي يتصرف إلا وفق ما تمليه عليه مصالحه الشخصية. لم يدرك أن وراء كل دولة سياسية أو عسكرية يقف رجال. إلا أنه اعتبر هؤلاء الرجال مجرد عامل يمكن تعديله. أذكر طرفة رواها قريب مسن للقذافي. فطوال 15 سنة، كان الرجل عينه يحضر له كل صباح الفطور. وطوال 15 سنة، لم يعرف القذافي اسمه. فقد كان القذافي والمقربون منه يدعون «ذلك الرجل». فما كان القذافي يهتم إلا بنفسه وبالمقربين منه. أما الإنسان ومشاعره فكانوا في نظره أموراً معقدة. لطالما تساءلت عما إذا كان هذا الرجل يملك مشاعر. هل كان يشعر بالحب؟ أشك في ذلك حتى اليوم. اعتاد أبي أن يقول لي إن قيمة الإنسان تُقاس بموقفه ممن هم أضعف منه. وأعتقد أن رأيه هذا مصيب.

«أقاربي دفعوا الثمن»

فكّرت في والدتي، تلك المرأة التي أنجبت تسعة أولاد وماتت وحيدة كما لو أنها نكرة. من أولادها التسعة، ما كان أحد حاضراً ليدفنها. ما كان أحد منا حاضراً ليطلب منها السماح. لم أستطع أن أطلب منها الصفح. عندما قررت معارضة القذافي عام 1980، شعرت عائلتي بالقلق: علمت أنني بذلك أعرِّض المقربين مني للخطر. لكن رفضي التعاون كان أقوى من حبي للمقربين مني، الذين اضطروا منذ ذلك الحين إلى دفع ثمن (باهظ) لقاء عصياني. كان بإمكاني ألا أتفوه بكلمة أو أقدم على أي خطوة. كان باستطاعتي الاستفادة من نظام بدا مستعداً ليقدّم لي كل ما أريد. ولكن هل كان بمقدوري العيش حرّاً مع تأنيب الضمير؟ أي عبرٍ كنت سأقدمها لأولادي إذا كنت أرى أمامي قاتلاً كلما نظرت في المرآة؟ لا يكون المرء حرّاً ببقائه خارج السجن، فالحرية في عقل الإنسان. لذلك اخترت حرية الضمير على حرية الرفاهية المصطنعة. الحياة في تبدّل مستمر. أُلقي ستة من إخوتي وأخواتي في السجن وتعرضوا للتعذيب، في حين نجحنا نحن الثلاثة الباقين في الهرب إلى المنفى في المغرب ومصر وإنكلترا والولايات المتحدة الأميركية. لا تنقصني الشجاعة، غير أنني ما كنت لأتحمل السجن. ما كنت لأتحمل تقييد حريتي وتعرضي للذل وحرماني من كرامتي التي أعتبرها بالغة الأهمية. وأشكر الله لأنه جنبي السجن. أدرك في أعماقي أنني رحلت لأعود أكثر جهوزية: فلا مجال للتفكير في أنني قد أهجر وطني. هذا البلد بلدي، وقد ولدت لأخدمه.

back to top