«البريك دانس» يشهد نهضة عالمية!

نشر في 08-12-2013 | 00:02
آخر تحديث 08-12-2013 | 00:02
{البريك دانس} أو رقص الشوارع شكل فني ابتكرته عصابات الشوارع في نيويورك خلال الثمانينيات وهو يشهد الآن نهضة لافتة على المستوى العالمي. قد تستند معارك الرقص الراهنة إلى استعراضات بميزانية مرتفعة مع حيل بهلوانية لافتة، لكنها لا تزال تركز على أمر واحد فوق كل شيء: الأسلوب. {شبيغل} التقت بعض الراقصين.
البقعة الصلعاء في وسط رأس خالد الشعبي هي الثمن الذي اضطر إلى دفعه لتطوير مهنته كراقص. تجاوزت الساعة الحادية عشرة من مساء ليل الجمعة في برلين، وكان فريق {بي تاون أول ستارز} (B-Town Allstars) يتدرب في الطابق الثاني من مبنى مخصص للمكاتب بالقرب من جادة ألكسندربلاتز، ضمن مساحة كانت تحتلها وكالة الاتصالات في عهد حكومة ألمانيا الشرقية. كانت الكابلات الكهربائية تتدلى من السقف والأرض مغطاة بطبقة بلاستيكية خضراء لامعة. إنه سطح مناسب لرقص البريك دانس.

تعالى صوت إيقاعات الهيب هوب من مكبّرَين للصوت. الفنانون المشاركون شبّان يتمتعون بلياقة بدنية ممتازة وكان شعرهم مصففاً مثل عارضي الأزياء. راحوا يؤدون حركات شقلبة ويثنون أجسامهم على إيقاع الموسيقى وكأنهم مصنوعون من المطاط. ثم تقدم خالد الشعبي ووقف على رأسه وزاد زخم حركاته ودار حول محور جسمه ثلاث مرات، ثم خمس مرات، ثم عشر مرات، وكان يدور وهو يستند إلى أعلى جزء من جمجمته.

هذه الحركة اسمها دوران الرأس والشعبي متخصص بها، فهو نفذها مرات عدة لدرجة أن بقعة صلعاء بحجم صحن الفنجان ظهرت في رأسه. يقول الشعبي إنه سيفقد شعره كله يوماً على الأرجح.

معركة السنة

بعد مرور ساعة، فاحت رائحة العرق من غرفة التمرينات التي باتت تفتقر إلى التهوية. يتدرب الراقصون هناك كل يوم تقريباً وغالباً ما تحصل حصة التدريب ليلاً منذ ثلاثة أشهر. يتمرن فريق {أول ستارز} لخوض {معركة السنة}، أي بطولة العالم في البريك دانس، وسيتم تنظيمها في ألمانيا هذه السنة.

قال أحد أعضاء الفريق: {سمعت أن الكوريين يمضون ست ساعات يومياً وهم يتدربون للمشاركة في بطولة العالم}. فأضاف الشعبي: {يجب أن نتدرب نحن لسبع أو ثماني ساعات إذاً}. يريدون إعادة الكأس إلى برلين.

البريك دانس نتاج حقبة الثمانينيات، أي الفترة التي شهدت ظهور مُشغّل الصوت {غيتو بلاستر} والسترات بلون النيون، وقد اشتهر حينها أسلوب الرقص هذا في الولايات المتحدة. ثم خلال التسعينيات، تلاشى البريك دانس في معظم أنحاء الغرب. لكن يبدو أن جيل الفيسبوك يعيد استكشاف هذه الرقصة الآن. في محطات المترو والحافلات وفي مدارس الرقص ونوادي الشباب، عاد الشباب يتدربون الآن على الحركات البهلوانية التي تميّز البريك دانس. تعج شبكة الإنترنت بأفلام عن فِرَق الرقص من أنحاء العالم. حتى إن هذه الموجة وصلت إلى دول محافظة مثل المملكة العربية السعودية والكويت.

راقصو البريك دانس يسمون أنفسهم {بي بويز} أو {بي غيرلز}. في ألمانيا، نشأ أكثر من 100 فريق، وتشارك تلك الفِرَق دوماً في مسابقات الرقص المعروفة بـ}المعارك}.

الأفضل في برلين

يشمل فريق {بي تاون أول ستارز} أبرز النجوم في عالم البريك دانس. يتألف من 12 شاباً من برلين وقد نشأ عدد منهم في الأحياء القاسية من المدينة. كان أحدهم يعمل في متجر للطباعة، بينما شارك آخر في برنامج تدريبي للرسم. أصبحوا جميعاً الآن راقصين محترفين ويحملون أسماء فنية مثل {سنوب} و}أفروكيلا}. اثنان من أعضاء الفريق لهما أصول ألمانية بينما يأتي الآخرون من المغرب وجنوب إفريقيا وفلسطين وجمهورية الدومينيكان.

قبل بضعة أيام من موعد بطولة العالم، قدّم الراقصون عرضهم أمام فندق {أدلون}، بالقرب من بوابة براندنبورغ، وكانوا يغزلون على الرصيف مثل البهلوانيين في السيرك. توقف المارة لمشاهدتهم واندهشوا بعرضهم وراحوا يصفقون لهم.

البريك دانس شكل من فنون الغيتو وهو نتاج ثقافة الشوارع. كانت العصابات من حي البرونكس في مدينة نيويورك هي التي اخترعت أسلوب الرقص هذا. يبدو أن البريك دانس يرتكز على شعار بسيط: يمكن تحويل اللاشيء إلى كل شيء!

يحمل خالد الشعبي لقب KC1، ويتحدَّر من سورية. بعد ولادته بفترة قصيرة، انتقل والداه من مدينة حمص السورية إلى برلين حيث عاشت العائلة في مبنى سكني. الشعبي لديه سبعة أشقاء وخمس شقيقات. يقول إن والده قال لهم حين كانوا صغاراً: {يا أولاد، يجب أن تدافعوا عن أنفسكم}.

نشأ الشعبي في الشوارع. كان يُعتبر {صبياً مشاغباً} كما يقول، فقد كان يشارك في المشاجرات ويسرق ويتعامل مع رجال الشرطة أكثر من المعلّمين. يقبع عدد من أصدقائه القدامى في السجن الآن بتهم {الطعن وما شابه ذلك}، وبالكاد استطاع الشعبي تدبّر أموره بحسب قوله.

عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، شاهد فريق بريك دانس في أحد أندية الشباب المحلية. يقول الشعبي: {كانت تلك اللحظة سحرية. لم أستطع أن أفهم كيف يستطيع الشخص أن يؤدي تلك الحركات من دون أن ينقصف جسمه في الوسط}. ثم بدأ يتدرب: {في عصابتي، كان كل شيء يتمحور حول المغامرات السريعة والمال السريع. لكنّ رقص البريك دانس هو عكس ذلك، إذ نحتاج إلى سنوات عدة لإجادة حركة واحدة. تعلمتُ أن أتمسك بهدفي وأتحلى بالصبر وألا أدع الفشل يحبطني}.

من الشارع إلى المسرح

يكسب الشعبي الآن عائدات جيدة من الرقص. يرقص مع فرقة {فلاينغ ستيبز} (Flying Steps)، فريق استعراضي يرقص على الموسيقى الكلاسيكية برعاية شركة {ريد بول}. قدم عروضاً في أنحاء العالم، وحتى الجماهير في مناطق نائية من أستراليا تعرف حركة دوران الرأس التي يقوم بها. تُعتبر بطولة العالم ذروة مسيرته الفنية. بالنسبة إلى راقصي البريك دانس، لا شيء أهم من {معركة السنة}.

الحدث من تنظيم الألماني توماس هيرجينروثير (44 عاماً) من مدينة هانوفر الشمالية. كان يريد أن يصبح أستاذاً في التربية البدنية واللغة الإنكليزية، ثم خطرت على باله فكرة إنشاء معركة الرقص. يرأس الآن وكالة لتنظيم الأحداث، وهي تنظم بطولة العالم كل سنة.

كان هيرجينروثير يضطر إلى جرّ الراقصين الجامدين من المسرح بينما يعمد الآخرون أحياناً إلى تحطيم غرفهم في الفندق: {اليوم، يختلف راقصو البريك دانس عن صورة نجوم الروك}. توسّع هامش الاحتراف في هذا القطاع. ينتبه الراقصون لما يأكلونه، حتى إن البعض يشارك في جلسات تأمل قبل تقديم العروض. عندما نُظمت بطولة العالم في مدينة مونبلييه الفرنسية، فاز باللقب فريق من فرنسا (معقل أوروبي لرقص البريك دانس). هذه المرة، حجز هيرجينروثير مركز {فولكس واجن هالي} للمؤتمرات في مدينة براونشفايغ في وسط ألمانيا.

من الطراز العالمي

وصل فريق {بي تاون أول ستارز} بالحافلة. بدأت الحلبة تمتلئ بالناس قبل ساعات من بدء العرض. بيعت جميع البطاقات وبدت معنويات المشجعين الحاضرين من جميع أنحاء أوروبا (عددهم 8 آلاف شخص) مرتفعة. لعب مشغّلو الموسيقى نغمات الهيب هوب والفانك وموسيقى السول. كان الناس يرقصون في كل مكان.

افتتح فريق من نيجيريا العرض. قام الراقصون بحركات تمديد السيقان ولفّوا سيقانهم مثل ربطات الأحذية. ثم وصل فريق من فنزويلا إلى المسرح وهو يقوم بحركات دوران الرأس. قام الراقصون الهولنديون بالدوران على ظهورهم وتشقلب الفرنسيون على الأرض ومددوا سيقانهم وكأنهم طواحين هواء.

الهدف من رقص البريك دانس التغلب على جاذبية الأرض مع الحفاظ على أقصى درجات الاسترخاء. قدم فريقان عرضهما خلال المعركة بينهما، وكانا يرسلان أفضل الراقصين لديهما بشكل تدريجي. تقيّم لجنة التحكيم تصميم الرقص وتختار الفائزين في النهاية.

عندما ظهر الفريق الألماني على المسرح، قام راقصو برلين بشقلبة على يد واحدة وحركات بهلوانية أخرى. ثم قام الشعبي بحركة دوران الرأس الشهيرة. فدار 42 مرة حول محور جسمه إلى أن بدا وكأنه يريد حفر حفرة في أرض المسرح برأسه.

ثار الجمهور من الحماسة. راح المئات يهتفون ويواكبون إيقاع الرقصة وكأنهم يحضرون حفلة هيب هوب. تأهل فريق {أول ستارز} للجولة المقبلة.

عناصر الأسلوب

كين سويفت (47 عاماً) من نيويورك أحد أعضاء لجنة التحكيم في براونشفايغ، ويُعتبر عموماً عرّاب البريك دانس.

عامل الفرادة بالغ الأهمية في رقص البريك دانس، فالأسلوب يعيد ابتكار طبيعة الأداء. لا يقيّم أعضاء لجنة التحكيم حجم إبداع الراقصين خلال المعركة فحسب، بل مدى الاسترخاء أو السلاسة في أداء الحركات، أي الأسلوب العام.

يبدو أن العناصر البهلوانية المعروفة باسم {حركات القوة} في البريك دانس تزداد صعوبة وسرعة وإثارة. يستطيع بعض الراقصين أن يؤدوا 20 حركة دوران دفعةً واحدة على مرفق واحد. أصبحت حركات الدوران والقفزات عند راقصي البريك دانس صعبة بقدر تمارين القاع الحوضي في الرياضة البدنية خلال الألعاب الأولمبية.

اقتراب النهاية

تأتي القدرة على تحمّل الألم بالممارسة. لا تكون النتيجة إيجابية دوماً حين يؤدي الراقصون حركة تشمل الوقوع عمداً على الظهر أو الكتفين أو الحوض من علوّ مترين. وفق دراسة أجراها مستشفى إيسن الجامعي، يصاب كل عشرة راقصين بأكثر من خمسة كسور، ويتمركز معظم الإصابات في اليد والكاحل. أصيب الشعبي بلائحة طويلة من الإصابات: ثلاث جراحات في الركبة وعدد من حوادث تمزق الأربطة وتخلّع الأصابع. في الحقيقة، يبدو جسمه في وضع سيئ. في عمر السادسة والعشرين، تجاوز مرحلة الذروة كراقص بريك دانس. بالنسبة إليه، تشكّل بطولة العالم هذه التحدي الأخير. يضع على ذراعه واقياً أسود لمرفقه. سرعان ما وجد زاوية هادئة في الكواليس حيث رفع يديه وأغمض عينيه وراح يصلي.

في الخارج، كان الجمهور يهتف: {معركة! معركة! معركة!}. في المرحلة نصف النهائية، تواجه الفريق الألماني مع راقصين من كوريا الجنوبية، وهم كانوا المرشحين الأقوى للقب. عملياً، يُعتبر رقص البريك دانس رياضة وطنية بالنسبة إلى شباب كوريا الجنوبية حيث يتلقى أفضل الفِرَق دعماً مالياً من الحكومة.

شقّ الألمان طريقهم نحو المسرح وهم ينتفضون وكأنهم صُعقوا بتيار كهربائي، فخاضوا المعركة بأداء جيد. لكن خرج الكوريون الجنوبيون من الكواليس وكأنهم مجموعة من الكرات النطاطة. فتح أحدهم ساقيه في الهواء وهبط على كفّيه وهو يبتسم. صوتت لجنة التحكيم لصالح كوريا الجنوبية بنتيجة 3 مقابل 2.

بعد فترة قصيرة، راحت الزجاجات والكراسي تتطاير في الهواء داخل غرفة تبديل الملابس الخاصة براقصي برلين. جلس الشعبي على الأرض وكان يبدو مرهقاً وكئيباً ويضع منشفة حول عنقه. قال: «نحن لا نعتبر أنفسنا رياضيين بل فنانين. لكنه أمر مؤلم».

ثم نظر إلى شاشة تلفاز مسطحة في إحدى الزوايا. بدأت المرحلة النهائية للتو حيث تتنافس كوريا الجنوبية مع فريق من هولندا. أرسل الهولنديون صبياً صغيراً كأول راقص يفتتح العرض، فقام بحركة دوران الرأس وراح يدور مثل الإعصار، ثم توقف فجأةً وقام بكل هدوء، وبشيء من الغرور، بثني ذراعيه أمام معدته.

بدا الشعبي العبقري في حركة دوران الرأس مذهولاً، فسأل الراقصين الآخرين في الغرفة: {كم عمر ذلك الصبي؟}. أجابه راقص بالقرب منه: {12 سنة}. فهز الشعبي رأسه ووضّب ملابسه في حقيبته وراح يبحث عن المخرج للرحيل.

back to top