الدور الحيوي للهجرة في إنعاش المدن الأميركية

نشر في 07-06-2014
آخر تحديث 07-06-2014 | 00:01
أحد أكثر المواضيع سخونة في صنع السياسة في الوقت الراهن هو كيفية إحياء المدن التي فقدت الزخم الذي شهدته أيامها الصناعية، ويتم استعراض أهمية الهجرة بالنسبة إلى تاريخ إحدى المدن عبر الدروس المستقاة بالنسبة إلى المستقبل.
 مجلة فوربس قبل عدة سنوات توقفت لتناول طعام العشاء في بوريتا تيرم وهي بلدة صغيرة في إقليم رومانا الإيطالي، وكان أربعة أشخاص يشغلون واحدة من طاولات المطعم الخمس، وهم يتحدثون عن أعمال تجارية، كانوا يتكلمون اللغة الإنكليزية بأربع لهجات مختلفة، وعندما سألتهم عن موطنهم أجابوا بفخار "شيكاغو"، ثم سألني أحدهم، وهو من مواليد جنوب إفريقيا، عن مسقط رأسي، وعندما قلت له "سيراكوز" أجاب "تلك هي بوريتا تيرم" أميركا.

وعندما سألته ماذا يقصد بذلك؟ قال إن بوريتا ووادي رينو الذي يحيط بها تعرضا لقصف متواصل خلال الحرب العالمية الثانية بسبب وجود إنتاج إيطاليا الصناعي فيهما، وأضاف "سيراكوز هي مدينة الصناعة في أميركا".

رفعت سيراكوز العديد من الرايات الصناعية في تاريخها، ومنها ذي سولت سيتي بسبب أول صناعاتها (اكتشاف ينابيع الملح في سنة 1654) و"عاصمة الآلات الكاتبة في العالم" بسبب وجود معامل سميث– كورونا ورمينغتون ثم مقرات كارير "موطن مكيفات الهواء"، ولكن "مدينة العدة الصناعية" لم تسمع على نطاق واسع.

والسؤال هو كيف أصبحت تلك المعدات مركزاً لمجموعة كاملة من الصناعات؟ الجواب هو الفولاذ، وقبل عدة سنوات عمد براون ولايب (أصبحت شركتهما جزءاً من جنرال موتورز) إلى قص المعدات، وتحولت المدينة إلى مركز لواحد من ثلاث شركات صلب أصلية في الولايات المتحدة، وكان صنع "أدوات الصلب" تلك مهماً بالنسبة إلى المرحلة الثانية من الثورة الصناعية، حيث استقلت الصناعة الأميركية، وكانت إنكلترا رائدة في صناعة الصلب الممزوج.

ونظراً لأن تعرفة منتصف القرن التاسع عشر جعلت تصدير الفولاذ الى الولايات المتحدة خطوة غير عملية قامت شركات الصلب الإنكليزية بتأسيس فروع أميركية بغية نيل الإمكانية الضخمة من الأسواق الأميركية على مستوى القارة.

وفي شتى أنحاء البلاد جلبت صناعات مختلفة مهاجرين من أنحاء مختلفة من الكرة الأرضي، ويشكل المواطنون من أصل إيطالي اليوم نحو 20 في المئة من سكان رود آيلاند وكونيكتكت ونيو جيرسي، وفي الغرب الأوسط يشكلون 1 أو 2 في المئة فقط من السكان، أما شريحة مزارعي الألبان في نيويورك فترجع جذورها الى الـ5000 أسكتلندي– أيرلندي الذين قدموا لبناء قناة "آري" في عشرينيات القرن الثامن عشر. وقطن سان فرانسيسكو أضخم جالية صينية بسبب الحاجة الكبيرة إلى العمل في بناء السكك الحديدية العابرة للقارات، وبالمثل كانت مدينة كنساس موطناً لواحد من أقدم مجتمعات البلاد من المكسيكيين– الأميركيين الذين قدموا لبناء روابط تلك المدينة مع أميركا الوسطى. والتدفق الحديث للمهاجرين إلى مينيابولس– سانت بول من الصومال يعتبر استثنائياً إلى درجة أن أجهزة الصرف الآلي تعمل باللغتين الإنكليزية والصومالية.

وأحد أكثر المواضيع سخونة في صنع السياسة في الوقت الراهن هو كيفية إحياء المدن التي فقدت الزخم الذي شهدته أيامها الصناعية، ويتم استعراض أهمية الهجرة بالنسبة إلى تاريخ إحدى المدن عبر الدروس المستقاة بالنسبة إلى المستقبل، ونحن نعمد بدلاً من ذلك إلى البحث عن حلول "مبتكرة" يبدو أنها لا تسهم في إحياء اقتصاد المدن بصورة يمكن التنبؤ بها، كما أن استعراض العلاقة التاريخية لمدينة ما بين الأعمال التي تحققت وبين تجربة المهاجرين قد تفرز نظرة ثاقبة إزاء رسم المستقبل.

وقد لاحظ مايكل بورتر أهمية المجموعات الصناعية في التنمية الحضرية، وكما أشرنا سابقاً كان في وسع كل مدينة تملك منتجاً فريداً وصلة بطرق حديدية تكوين مجموعة صناعية. ولكن بينما نحن نملك نظرية فليس لدينا خريطة طريق من أجل صنع مجموعة ناجحة، ومن الحماقة تخيل إمكانية إعادة بناء مجموعات صناعية قديمة لأن التقنية والأسواق مضت إلى الأمام، كما أن من يشير إلى أن فكرة وادي السيلكون تمثل المستقبل بالنسبة إلى كل مدينة إنما يأمل الكثير، وقد أثبت اقتصاد وادي السيلكون مقاومة استنساخ على الرغم من العشرات من المحاولات الواضحة، والتقنية في الوقت الراهن عالمية السمة وتتركز حول الكفاءة، كما أنها أصبحت شبه افتراضية، وفي حقيقة الأمر يعتقد العديد من الخبراء أن ما يدعى بالنظام البيئي في وادي السيلكون نفسه قد لا يتمكن من الاستمرار في المستقبل البعيد.

ما الدروس المستقاة من الماضي والتي قد تكون مفيدة بالنسبة إلى إعادة تصور وضع مدننا؟ أولاً يتعين على المسؤولين والخبراء التوقف عن التركيز على الروايات العرضية، سواء كانت حقيقية أو زائفة، والتي لا تنطوي على وعود حقيقية بالنسبة إلى المستقبل. وليست ذات صلة الفكرة القائلة بأن العولمة أو الوظائف الصناعية في الخارج قد تسببت في تراجع أوضاع المدن، حتى إذا ثبت ذلك فإن الوصول إلى "جذور الأسباب" المتعلقة بالمشكلة في عالم ديناميكي لا يمكن أن تفضي إلى حل، وفي حقيقة الأمر، فإن العولمة هي التي أسهمت في الفترة السابقة في جعل مدننا الصناعية ناجحة في المقام الأول.

من جهة أخرى يتعين على المدن تطوير طرق جديدة من أجل التحول إلى موطن للشركات التي تستطيع دعم النمو في المستقبل وإسناده، وقد أثبتت عملية نقل شركة تصنيع قائمة من خلال استخدام حوافز تمويل عامة أنها استراتيجية فاشلة تماماً، كما أن شركات القرن العشرين لا يمكن أن تمثل وسيلة إنقاذ لمدن القرن الحادي والعشرين بغض النظر عن تصريحات "عودة" التصنيع المتكررة التي تصدر عن الرئيس أو مخططي المدن أو رؤساء البلديات وأعضاء مجلس الشيوخ.

والمهم هو إعادة ربط أي مدينة باتجاهات عالمية معاصرة، والشركات الجديدة في صناعات جديدة واعدة يصعب وجودها بصورة متزايدة، وكما كانت الحال في الماضي ربما يكون للمهاجرين دورهم الخاص في إحياء العديد من المدن وإنعاشها.

ويروي لنا التاريخ الإسهام الحيوي للمهاجرين من ذوي المهارات العالية في حياة المدن في كل مرحلة من مراحل تطورها الاقتصادي، وقد تتخذ المدن الساعية إلى صناعات جديدة في الوقت الراهن خطوة جريئة تتمثل بتشغيل المهاجرين، وعلى وجه التحديد يتعين على المدن البحث عن الأشخاص الذين يتوقون إلى القدوم إلى الولايات المتحدة لممارسة مؤهلاتهم العلمية والهندسية من خلال تأسيس شركات. ويوجد عشرات الآلاف من أمثال هؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على إذن لدخول البلاد، وهم لا يسعون إلى أشياء تقدمها أميركا لهم بل إلى تقديم أشياء إليها.

ولكن المدن قد تجتذب مهاجرين من ذوي التقنية العالية يعمدون إلى استخدام طريق مختلف، وبموجب القوانين الفدرالية للهجرة يمكن شراء الجنسية الأميركية، وقد حددت الحكومة الفدرالية الثمن بمبلغ 500000 دولار، وهي فرصة مصممة بشكل خاص لتشجيع المهاجرين الذين يعتزمون تأسيس شركات جديدة، وأي مدينة تتطلع إلى مستقبل اقتصادي جديد قد تتمكن من تنظيم مجموعة من رجال الأعمال المحليين ترعى دخول أولئك المواطنين من ذوي المهارات العالية، وتعتبر الشركات الجديدة المصدر الرئيسي للوظائف الجديدة، وكلما ازداد عدد الشركات الجديدة في المدينة أصبح مستقبلها أفضل.

وقد يتمكن المرء من طرح مبادرات تهدف إلى المساعدة على احتضان الأعمال التجارية بين المهاجرين والأقليات على شكل تكتيك يحتمل أن يفضي إلى معدلات أعلى من خلق وظائف، وتجدر الإشارة إلى عدم وجود مراجع تتعلق بكيفية الاتصال بالمهاجرين والأقليات الذين برهنوا على نجاهم في العمل في الماضي.

  وتمثل نيويورك مثالاً بناءً في هذا الصدد، فقد شهدت رواية مهاجر قام بتأسيس شركة لإنتاج الزبادي (اللبن) مما دفع إلى إقامة العديد من الشركات المماثلة، وتضم المدينة اليوم صناعة ألبان مزدهرة تزود بها بقية المدن الأميركية، وكما كانت الحال في الماضي كان الحظ وراء اختيار ذلك المهاجر للمكان الذي قرر الانطلاق منه نحو مستقبل اقتصادي جديد.

Carl Schramm

back to top