أزمة أوكرانيا: «قتل أولئك الفاشيون الفتاة وسيكون مصيرهم جهنم»

نشر في 10-05-2014
آخر تحديث 10-05-2014 | 00:01
أعطت وسائل الإعلام الروسية يوماً بعد يوم الانطباع أن أوكرانيا بدأت تتحوّل في ظلّ نظام ما بعد الثورة الجديد إلى دولة «نازية» لا يمكن لأي مواطن صالح أن يشعر فيها بالأمان.
 ذي تيليغراف وضع المعزون الباكون وروداً حمراء قرب وجه المرأة الميتة المتجمّد، في حين حُمل نعشها عالياً بين الحشود الصامتة، وسرعان ما انضم مئات آخرون إلى موكب التشييع، مما أوقف كل النشاطات في بلدة كراماتورسك شرق أوكرانيا إكراماً ليوليا إيزوتوفا، التي أُرديت قتيلةً وهي في الحادية والعشرين من عمرها.

جريمتها أنها كانت تحمل صواني الشطائر إلى نقطة تفتيش يديرها ناشطون موالون لروسيا يسيطرون على المنطقة، وبينما كانت تحمل تقدمتها هذه إلى مَن يعتبرون أنفسهم "مدافعين" عن "جمهورية دونيتسك الشعبية" يوم الجمعة قبل الماضي، أُطلق عليها النار في الشارع.

قالت إحدى المعزيات، التي غلبها الحزن فعجزت عن ذكر اسمها: "قُتلت لأنها حملت الطعام، لهذا قُتلت"، وأضافت، مشيرة إلى الميليشيا القومية الأوكرانية التي دعمت بقوة الثورة في شهر فبراير: "أرداها عناصر قطاع اليمين"، وتابعت باكيةً: "إما هؤلاء وإما جيش أوكرانيا، لكن هذا غير مهم لأنهما واحد. قتل أولئك الفاشيون هذه الفتاة وسيكون مصيرهم نار جهنم".

بينما كانت إيزوتوفا تُحمَل إلى مثواها الأخير، عكس مصيرها الكثير عن الحرب الغامضة التي تُشَنّ راهناً في سهول أوكرانيا الشرقية، فلا يستطيع أحد أن يؤكد هوية مَن قتلوها، فضلاً عن أن الجيش الوطني بات يُعتبر شريك المتطرفين المتشددين، ويكثر أخيراً استعمال كلمة "فاشية". نتيجة لذلك، شكلت مراسم دفنها مناسبة للتعبير عن الخوف والغضب كما الحزن.

لكن خوف مشيعيها صادق، ويكشف الكثير عن هذه الأزمة، فيعتقد عدد كبير من الناس في دونيتسك أن العالم الخارجي، خصوصاً ما تبقى من أوكرانيا، يتعمد إساءة فهمهم.

في مطلق الأحوال، صوّت أكثر من 80% منهم لفيكتور يانوكوفيتش، الرئيس المخلوع، خلال الانتخابات الأخيرة عام 2010، فقد وُلد يانوكوفيتش في هذه المنطقة، وسبق أن خدم كحاكم دونيتسك، علاوة على ذلك، تعتبر أقلية كبيرة من سكان هذه المنطقة (نحو 40 ) نفسها جزءاً من الإثنية الروسية.

عند الإطاحة بيانوكوفيتش خلال ثورة شهر فبراير، لم يرَ داعموه في موطنه في هذه الخطوة سقوطاً يستحقه بالكامل قائد مستبد فاسد، لا شك أن البعض كرهوه، خصوصاً بسبب عمليات السرقة الوقحة التي تجلت بوضوح خلال عهده، لكن حتى هؤلاء اعتقدوا أن اللحظة المناسبة للتخلص منه كانت ستحلّ خلال انتخابات عام 2015.

لذلك برز في دونيتسك إجماع على أن الثورة كانت انقلاباً، والأسوأ من ذلك أن الناس لاحظوا أن القوميين الأوكرانيين المتطرفين شكلوا جزءاً (جزءاً فحسب) من حملةٍ أطاحت بيانوكوفيتش.

شكّل هذا بالتأكيد أرضاً خصبة لماكينة الدعاية الروسية المذهلة، فاستشاط الكرملين غضباً عند الإطاحة بقائد مطيع في كييف، وبدأ العمل في الحال على تأجيج مخاوف الناس في دونيتسك، فلم يكتفِ بتصوير قادة الثورة في كييف بدأب على أنهم مغتصبون غير شرعيين، بل على أنهم أيضاً "فاشيون" و"متطرفون"، وهكذا أعطت وسائل الإعلام الروسية يوماً بعد يوم الانطباع أن أوكرانيا بدأت تتحوّل في ظلّ نظام ما بعد الثورة الجديد إلى دولة "نازية" لا يمكن لأي مواطن صالح أن يشعر فيها بالأمان.

لا تكترث هذه الدعاية بأن الثورة شكّلت في الواقع حركة شعبية حقيقية حظيت بدعم عدد ضخم من المواطنين الأوكرانيين، بعضهم في الشرق، ولا بأن برلماناً منتخباً عيّن الحكومة الجديدة بدعم من حزب يانوكوفيتش السابق. صحيح أن رسالة هذه الدعاية كانت على الأرجح سخيفة، إلا أنها بدت واضحة وقوية (في دونيتسك على الأقل)، وحظيت بالتأييد، وتلخص لافتة كُتبت بالإنكليزية خارج دار البلدية في كراماتورسك هذا الوضع: "سنحمي دونيتسك من المجلس العسكري الحاكم في كييف".

وقع هذا المبنى (على غرار عشرات أخرى في هذه المنطقة التي تعدّ 4.5 ملايين نسمة) بين أيدي رجال مقنَّعين يدّعون أنهم "يحمون" شعب دونيتسك بخوض ثورة ضد كييف وإعلان ولادة "جمهورية شعبية" جديدة.

يمرّ الطريق الذي يخرج شمالاً من مدينة دونيتسك عبر المنطقة الرئيسة في هذه الثورة، التي يبدو أحياناً أنها نبعت من مخيلة سريالية، فخارج بلدة كونستانتينوفكا، التي تخضع راهناً لسيطرة "الجمهورية الشعبية"، ترى حاجزاً من الإطارات وأغصان الأشجار في وسط الطريق السريع. عند هذا الحاجز يتولى نحو 20 رجلاً حراسة الموقع، متسلحين بالعصي والهراوات وأحياناً ببنادق قُطعت ماسورتها.

فتّش رجل يُدعى سيرغي كان يخفي وجهه وراء قلنسوة سوداء سيارتي وطلب رؤية جواز سفري، لكن الأبجدية اللاتينية في الجواز السفر البريطاني تبدو مبهمة بالنسبة إلى شخص تربى في عالم من أصول اللغة الروسية السيريالية القديمة، راح سيرغي يدقق في كل صفحة، وسألني عما إذا كنت هولندياً ليُقرّ بعد ذلك بحيرته وضياعه. فقال: "لا أفهم شيئاً من جواز السفر هذا"، وراح يهز رأسه استياءً، قبل أن يعيده إلي ويسمح لي بمتابعة السير بحركة من يده.

كثُرَت نقاط التفتيش هذه في البلدات المحتلة وحولها، إلا أنها تبدو مجرد واجهة أو رمز للسيطرة، لا إجراء أمني حقيقي أو حاجز يجب الدفاع عنه، فتُعَدّ نقاط التفتيش هذه غالباً من إطارات تُدعّم بالألواح الخشبية وأحياناً الأشجار الساقطة، كذلك يخفي بعض هؤلاء المدافعين وجوههم وراء قلنسوات أو أقنعة طبية بيضاء، في حين لا يبذل آخرون أي جهد لإخفاء هويتهم.

صحيح أنهم ينظرون بعين الريبة إلى الصحافيين الأجانب، غير أنهم لا يتعاملون معهم بعدائية، أخبرني رجل يرتدي زيًّا مموهاً أخضر وهو يبتسم، عندما علم من أين أتيت: "ما زلنا نحب فرقة البيتلز"، وعند نقطة تفتيش لاحقة، طلب مني مراهق مهذب "المال ليشتري الوقود"، لكنه سارع إلى الإضافة: "لا مشكلة إن كنت لا ترغب في إعطائي المال"، غير أنني ظننت أن من الحكمة تقديم تبرع صغير لتزويد "الجمهورية الشعبية" بالوقود، وحظي تبرعي هذا بصيحة شكر: "سباسيبا!" ("شكراً").

قد يبدو مشاة "جمهورية دونيتسك الشعبية" هؤلاء خطيرين، إلا أن الأدلة تشير إلى أنهم لا يتوقون إلى خوض حرب، فتنتشر على الطريق السريع أيضاً نقاط تفتيش تابعة للجيش والشرطة الأوكرانيَّين ولا تبعد أحياناً سوى بضع مئات من الأمتار عن المراكز الموالية لروسية، ورغم ذلك، تشكّل الصدامات بينهم حالات استثنائية، لا شائعة.

في دونيتسك بحد ذاتها، سيطرت مجموعة من المتظاهرين على دار البلدية، ويعني ذلك عملياً جلوس نحو 12 رجلاً في الطابق السفلي، في حين يتواصل العمل من حولهم بشكل طبيعي، فضلاً عن أن العلم الأوكراني الأزرق والأصفر ما زال يرفرف فوق هذا المبنى.

إذاً، هل يسيطر أحد فعلاً على هذه الثورة؟ تبدو الحكومات الغربية مقتنعة بأن الرئيس فلاديمير بوتين يتحكم في كل خيوطها، فقد زُرع الجنود الروس، على ما يظهر، بين الثوار، ويُفترض أن ناشطين روساً من الاستخبارات العسكرية الروسية ينسقون العملية برمتها.

تحمل هذه الأخبار على الأرجح شيئاً من الحقيقة، فمن الغباء الاعتقاد أن الاستيلاء على مبانٍ عامة في ما لا يقل عن 12 بلدة ومدينة في دونيتسك ومنطقة لوهانسك المجاورة حدث من دون أي تخطيط متقن، فلا شك أن ثمة مَن يموّل هذه العمليات ويمدها بالسلاح والخطط الاستراتيجية.

لكن إنجاز بوتين الأهم يبقى على الأرجح الهجوم الإعلامي العنيف الذي أدى إلى نشر جو الخوف هذا، وقد ساهمت الحادثة المريعة في أوديسا يوم الجمعة الماضي، حين قُتل 32 متظاهراً موالياً لروسيا داخل مبنى محترق أشعله على الأرجح أوكرانيون، في تأجيج حالة الخوف هذه وانتشارها.

رغم ذلك، يواجه حتى أشد المؤيدين لـ"جمهورية دونيتسك الشعبية" صعوبة في تحديد مطالبهم، فيُنكر كثيرون منهم أي رغبة في الانضمام إلى روسيا ويكرهون وصفهم بـ"الانفصاليين"، كذلك يمقتون كلمة "فدرالي"، مفضلين القول إنهم يريدون شكلاً من الحكم الذاتي داخل أوكرانيا، ولكن أي نوع من الحكم الذاتي؟ يعجزون عن التوضيح.

يبقى القاسم المشترك الوحيد بينهم جميعاً الخوف من "الفاشيين" المزعومين في كييف والذعر المستمر من أن يُتركوا في قبضتهم.

يشير كل ذلك إلى أن المجال ما زال مفتوحاً أمام التوصل إلى تسوية تساهم في تفادي مأساة. أعلنت الحكومة عملية "مناهضة للإرهاب" كي تعيد بسط سيطرتها على دونيتسك، ولكن على قادة أوكرانيا الجدد، بدلاً من ذلك، العمل على طمأنة سكان هذه المنطقة، ربما بدعوة عدد من قادتهم للانضمام إلى الحكومة، معززين هذه الخطوة بعرض كريم ومحدد يمنحهم حكماً ذاتياً، لا شك أن بوتين بذل قصارى جهده ليؤجج الخوف؛ لذلك على قادة أوكرانيا أن يسعوا بدأب إلى تهدئة هواجس شعب خائف بحق.

* ديفيد بلير

back to top