عن ثقافة الاعتذار

نشر في 23-03-2014
آخر تحديث 23-03-2014 | 12:01
 باسم يوسف ما حدث خطأ ولا تبرير لذلك

طريقة الاعتذار كانت خطأ ولا تبرير لذلك

جوهر الاعتذار كان خطأ ولا تبرير لذلك

طريقة التعامل مع الخطأ كانت كارثية ولا تبرير لذلك

أحببت أن أبدأ بهذه الكلمات حتى أنفي عن نفسي شبهة أنني أكتب هذا المقال لتبرئة نفسي من تهمة ارتكاب خطأ جسيم أو تبرير للطريقة الخاطئة التي تعاملت بها مع الموضوع.

أبدأ بطريقة الاعتذار التي كانت غير كافية، كما لم تكن على قدر الاحترام الكافي للقراء.

ولأي شخص آخر تابع هذه الأزمة سواء قرأ المقال أم لم يقرأه.

العذر الذي استخدمته، وهو "ضغط العمل"، هو عذر غير كاف، ولا يرقى إلى مستوى الحدث، فضغط العمل مستمر على مدار السنة، ولا يجب أن يكون هذا تبريراً لما حدث.

العذر الآخر هو: "نسيت" أو "سقط سهواً" هو في الواقع استهتار واستسهال، واستخدمته لتبسيط ما حدث في وضع لا يحتمل التبسيط أو الاستسهال.

(ملحوظة: السطور القليلة القادمة لا قيمة لها في سياق ما حدث، ولا تعتبر تبريراً، ولكن توضيح مفصل لما حدث، وقد ظننت أن اعتذاراً بسيطاً يلخص الموضوع باستخدام جمل مثل "ضغط العمل"، أو "نسيت" قد يحل المشكلة، ولكنه في الحقيقة أدى إلى تفاقمها).

بدأ هذا الأمر منذ أكثر من أسبوعين، حين قلت إنني سأنقل مقالاً قرأته عن الأزمة الأوكرانية من منظور مختلف، وإنني سأكتب اسم الكاتب والموقع، واسم كاتب آخر قد ناقش المقال من زاوية آخرى.

الخطأ الأول هنا أنه لم يكن اقتباساً، ولكنه كان أقرب إلى الترجمة، واستعنت بمقالات أخرى، وكان من المفترض كتابة ذلك بالتفصيل.

تمت كتابة المقال وإرسال نسخة إلى رسام الكاريكاتور كما اعتدنا في الأعداد الأخيرة، وكانت هذه النسخة الأولية تحمل الإشارة إلى الكاتب الأصلي.

لم أذكر هذه الواقعة، لأنني لم أكن أريد إقحام أشخاص آخرين في المشكلة، وظننت أنه إذا قلت "أنا آسف، أنا غلطان" فإن هذا سيكون كافياً.

على مدى أيام قمت بتعديل المقال أكثر من مرة، ومع المسح والتعديل على النسخة الموجودة عندي تمت إزالة آخر جزء الذي فيه هذه الإشارة، حيث كان موجوداً في الـFooter أو هامش المقال، ولم أنقل الهامش في النسخة النهائية، ولم أقم بمراجعة المقال قبل إرساله، وأعرف تماماً أن ذلك شيء غبي ومتخلف وربما لا يصدق، خصوصاً أن ذلك يأتي من شخص يفخر بمهنية فريق عمله، ولكن مقالات الشروق والجريدة هي جهد شخصي مني، ولا يساعدني فيها أحد، والأخطاء الواردة، سواء في البحث، أو الكتابة، أو التحرير، أو المراجعة، أو وسيلة الاتصال، وإرسال المقال، هي أخطاء شخصية بحتة، ولم أذكر هذه التفاصيل، لأنني ظننت أن "أنا آسف"، و"سقط سهواً"، كافية، ولكني كنت مخطئاً.

الجزء الوحيد الذي كان يمكن أن يبرر فعلاً استخدام عذر ضغط العمل هو أنني لم أدرك ما حدث إلا متأخراً مساء (الثلاثاء)، فبعد تسليم المقال يوم (الاثنين) صباحاً، وبعد نشره صباح (الثلاثاء)، انشغلت بالعمل في الحلقة، وتم تنبيهي ليلاً من الأصدقاء بما يحدث.

جاءت طريقة تعاملي مع الموضوع لتحمل قدراً كبيراً من البلاهة والتسرع والذعر والمكابرة والاستهبال، فجاء التبرير وجاء التظاهر بأن الإشارة كانت موجودة "لكن انت اللي مش واخد بالك"، ثم جاء التبسيط والتسطيح في الاعتذار، سواء على "تويتر" أو بيان الاعتذار في الشروق والجريدة.

كتبت أكثر من خمسين مقالاً للشروق والجريدة، ولم أكن محتاجاً إلى وضع اسمي على مقال يشرح الأزمة الأوكرانية، وكانت نيتي هي أن يطلع القراء على وجهات نظر مختلفة لما يحدث.

فالمقال لا يضيف لي شيئاً، ولا أستفيد منه بأي مجد شخصي، فلا أنا أبيع مقالاتي بأموال طائلة، ولا هو ورقة علمية أو براءة اختراع سأستفيد منها، كما أن هذا المقال كان مقروءاً على الإنترنت والـ"فيسبوك"، ورأيته على صفحات الأصدقاء من قبل، فلست من الغباء أن أظن أن شيئاً كهذا يمكن إخفاؤه، فعلت كل ذلك بحسن نية، ولكن كما نعرف كلنا، فالطريق إلى الجحيم يكون مفروشاً بالغباء وسوء التصرف قبل النوايا الطيبة.

من أخطائي الأخرى أنني لم أقم بالبحث الكافي عن الكاتب أو توجهاته السياسية التي ربما تكون منحازة إلى فكر ما، مما أثار طبعاً المزيد من الجدل والهجوم، فكل ما رأيته في المقال هو توضيح لضعف الاتحاد الأوروبي وأميركا وانشغالهما بغسل أموال الروس بدلاً من الدفاع عن حقوق الإنسان، وجاء اعتذاري للكاتب لارتكاب خطأ مهني، ولا علاقة لذلك بأية اتجاهات سياسية.

ذكرت كل ما سبق ليس للتبرير، لكن لتوضيح حسن النيّة.

الآن ينتهي التوضيح ويبدأ الاعتذار الحقيقي.

كما قلت فليس هناك أي مبرر لهذا الخطأ، لذلك فأنا أعتذر احتراماً للقراء بدون قيد أو شرط، فما ذنب أي أحد ليتحمل أخطائي الغبية في التحرير والإرسال؟ وهذا الاعتذار يشمل من قرأوا المقالات، أو من سمعوا عن المشكلة بدون أن يقرأوا أي شيء إلا مقالات الهجوم.

ليس هناك أي عذر على الإطلاق لما فعلته، وأتحمل المسؤولية كاملة، وأستحق كل كلمة هجوم أو تقريع أو سخرية.

أرفض التبرير الذي يقول إن الخطأ لا يتحمل كل هذه الضجة، خصوصاً بعد أن اعتذرت عدة مرات، بل سخرت من نفسي في برنامج يشاهده الكثيرون ممن لا يقرأون الصحف، فالمشكلة هنا ليست في حجم الخطأ ولكن فيمن فعلها، فإذا كنت قد استمتعت بتأييد ومساندة كبيرة من قبل، وإذا كان الله قد أنعم عليّ بشهرة ضخمة وتم تدليلي بحب الكثيرين، فلا يوجد خطأ صغير أو خطأ كبير، فحجم الخطأ يكون على حجم المتابعة وحجم الشهرة.

أرفض استخدام الحجة المعتادة أن هناك أشياء أكثر خطورة في هذا البلد تستحق أن يوجه إليها كل هذا الغضب، فهذه حجة البليد، وإذا أخطأت في حقك كقارئ ومتابع، فما يحدث في البلد من أخطاء ومصائب أخرى لا يبرر ألا تنال الاعتذار الذي تستحقه.

أرفض الجمل المحفوظة من عينة "رصيدي عندكم يسمح"، فالشباب الذي يمثل جزءاً كبيراً من الجمهور لن يتذكر لك المواقف التي عبّرت فيها عن رأيه، وسينسى كل ذلك في لحظة واحدة، ولن يساندك، ولن يقف بجانبك، أو يلتمس الأعذار لك، هذه هي طبيعة الحياة العامة، وهذه هي الضريبة الحقيقية للشهرة، فالذبح والتحطيم ورد الفعل العنيف جزء من هذه الضريبة، وسواء أحببت ذلك أم لم تحبه، فهذا هو الواقع.

أعلم أن البعض سيظن أن الاعتذار والسخرية من نفسي في الحلقة ليس أمراً كافياً، وأنني يجب أن أعامل نفسي كما أعامل الآخرين، فأخصص حلقة كاملة على ذلك، ولكن عذري الوحيد أنني اعتذرت أكثر من مرة، وتراجعت واتخذت قراراً عملياً ستعرفونه لاحقاً.

أعلم أن الكثيرين لم يتقبلوا هذا الاعتذار، وأعلم أنني قد فقدت ثقة الكثيرين بلا رجعة، وأعلم أن هذا الاتهام سيستمر سيفاً معلقاً على  رقبتي، وأعلم أنه سيتم استرجاع هذا الخطأ في كل مرة أطلق تصريحاً أو أدلي بأي رأي، وهذا أيضاً من طبيعة الحياة العامة،  وهذا هو الثمن الذي تدفعه حين تخطئ وأنت في مكانة شعبية معينة.

أعلم أن هذا الاعتذار لن يلقى حظه في الانتشار مثل الهجوم، وأعلم أن الكثيرين لم يقرأوا المقالين ويقارنوا بينهما بدقة واستمعوا فقط للهوجة، فمثلاً لن ينشر هذا الاعتذار على الصفحة الأولى في الأهرام كما فعلوا حين نشروا الهجوم على المقال، ولن تجد له أثراً في عشرات البرامج التي ناقشت بالتفصيل كل شتيمة واتهام وجه إليّ، وأعلم أنه مهما اعتذرت فسيطالب الناس بالمزيد، وربما لن يستريح البعض إلا باختفائي من على ظهر الكوكب، أو قطع يدي اليمنى على أقل تقدير، فبعض الناس لن يقبلوا منك أي شيء، ولكن هذه هي طبيعة الأشياء، وهذه هي طبيعة البشر، وقبولك أو رفضك لهذه الطبيعة لن يغيّر شيئاً.

أتقبل كل ذلك، وأرى أن ما حدث مهم لتربية النفس، ودفعني إلى أن أحسن من أدائي الإعلامي تجاه الجمهور.

وإذا كانت هناك أية ميزة لما حدث، فهي إظهار الأشياء على حقيقتها. نحن بشر ونحن نخطئ.

فقد رأينا على مدى السنوات الأخيرة كيف أن استخدام ألفاظ مثل "رمز" وقائد" و"مناضل" يمكن أن تضع الكثير من التوقعات على البشر وترفعهم إلى مصاف المعصومين، ويمكن أن تتحطم الآمال والتوقعات على حقيقة الطبيعة الإنسانية التي تخطئ وتصيب وتتعلم.

كلنا نخطئ، ولكنْ قليلون من يملكون شجاعة الاعتذار وثقافته.

أعلم أن ذلك سينعكس على البرنامج، ففي المرة القادمة التي سأنتقد فيها سلوكاً مهنياً وصحافياً وإعلامياً لأي أحد سيكون الرد: "ما بلاش انت"، وربما ذلك سيكون مفيداً، فأنا لم أدع في يوم من الأيام أنني على مرتفع أخلاقي أعلى من الآخرين، كلنا بشر وكلنا نخطئ، وسخريتي مما يحدث في البلد ليست تعني بالضرورة أنني أفضل وأرقى وأكثر صواباً من الآخرين.

فهدفي من البرنامج والمقالات هو إبداء رأيي في سلوكيات وسياسات خاطئة (من وجهة نظري)، فإذا اعتذر من يفعلون ذلك فلا أساس لاستمرار الانتقاد، ولا حاجة إلى استخدام الأخطاء ضد من اعترفوا  بها واعتذروا عنها.

في النهاية، لقد ارتكبت الخطأ في هذه المساحة، وأنا أسعى إلى تصحيحه في نفس المساحة.

أؤكد عدم وجود مبرر مقبول لما حدث، ولذلك ليتم تطبيق الكلام على أرض الواقع فقد اتخذت قراراً بالامتناع عن الكتابة لبعض الوقت، للتركيز على البرنامج، وإعطاء نفسي مساحة للتأمل ومراجعة الأخطاء المهنية والصحافية، لتقديم خدمة أفضل للقراء.

اتخذت هذا القرار رغم أنني كنت أستمتع حقاً بالتعبير عن نفسي في نافذة إعلامية مختلفة، فكنت أعتبر ذلك هواية شخصية لي بعيداً عن مشاكل البرنامج.

أعرف أن هذا الفعل سيعطي فرصة للبعض الذين سيعتبرون ذلك دليلاً على الاعتراف بجريمة ما، وأن الاعتذار دليل على الضعف والانهزام، ولكن هؤلاء لا يعرفون معنى ثقافة الاعتذار ولا يدركون قيمتها.

وربما يكون رد الفعل هذا مثالاً يحتذي به آخرون يخطئون يومياً في حق الوطن ومن يعيشون فيه، وبدون أدنى خجل أو مراجعة لما يفعلونه، وهو أكثر بكثير مما حدث هنا، فما حدث هنا هو خطأ مهني ناتج عن سهو وحسن نية، وكان الهدف منه عرض أفكار مختلفة عن قضية عالمية، فلم أقم بنشر إشاعات، أو الطعن في أعراض الناس، أو اتهام أحد في وطنيته ودينه، ولم أقم بانتهاك خصوصية أحد، أو بيع الوهم للناس في صورة أخبار كاذبة، أو وعد بعلاج زائف، أو كذب وتدليس للحصول على مكاسب سياسية، لذلك أرجو أن يكون هناك أيضاً رد فعل شعبي مناسب لهذه الانتهاكات اليومية التي تمر مرور الكرام.  

في النهاية أنا فخور أنني أعيش في فترة تشكل فيها الرقابة الشعبية خط الدفاع الأول ضد أخطاء الإعلاميين وتجاوزاتهم، وأتمنى أن تستمر هذه الرقابة في الضغط على كل إعلامي أو سياسي أو شخصية عامة حين يقع في الخطأ، فبالتأكيد سيخلق ذلك مجتمعاً أفضل بكثير.

بسببكم أنتم هناك ثقافة وليدة اسمها ثقافة الاعتذار، ثقافة تكبر وتقوي وتدفع كل من استفاد بالشعبية التي أعطاها له الجمهور أن يكون على قدر المسؤولية، وألا يكابر حين يخطئ، وألا يكون الاعتذار مجرد سد خانة ولكنْ تقويم حقيقي للسلوك والمهنية، وأتمنى أن تنجح هذه الرقابة الشعبية في تصويب الأخطاء الأخرى التي تملأ الإعلام والسياسة.

عندي أمل كبير.

شكراً لكم.

أراكم هنا قريباً إن شاء الله.

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top