لا تحتووا روسيا... بل ادفعوها شرقاً

نشر في 10-05-2014
آخر تحديث 10-05-2014 | 00:01
يكفي أن يعزز الغرب مواضع الغموض والشك في حسابات بوتين بشأن قدرة روسيا على التوسع غرباً بنجاح، والأهم أن على واشنطن أن تؤكد لبوتين خطأ فكرته بقدرة بلاده على الاستيلاء بسهولة على مناطق في أوكرانيا وأوروبا الشرقية والاحتفاظ بها.
 ذي دبلومات أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" الشهر الماضي أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قرر عشية الأزمة الأوكرانية التخلي عن سياسة "إعادة ضبط" العلاقات مع روسيا واعتماد سياسة "الاحتواء 2.0"، فقد جاء في هذه الصحيفة:

"كما قررت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية التصدي للاتحاد السوفياتي وطموحاته العالمية، عقد أوباما العزم على عزل روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، وذلك بقطع علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع العالم الخارجية، ما يحد بالتالي من طموحاتها التوسعية في جوارها ويجعلها بفاعلية دولة معزولة.

ذكر مساعدو أوباما "أنه قرر ألا يقيم مجدداً علاقات بناءة مع بوتين، حتى لو تمّ التوصل إلى حلّ للمواجهة الحالية في القرم وشرق أوكرانيا، نتيجة لذلك، سيمضي أوباما السنتين ونصف السنة المتبقية له في سدة الرئاسة في محاولة الحد من الخلل الذي قد يسببه بوتين، والحفاظ على ما يمكن إنقاذه من تعاون هامشي، أو تجاهل سيد الكرملين، ومبدياً عليه مواضع أخرى في السياسة الخارجية ما زال بالإمكان إحراز تقدّم فيها".

نظراً إلى عناد روسيا، من المبرَّر أن يميل أوباما إلى تبني مقاربة مماثلة، لكن هذا خطأ، فبدل احتواء روسيا بالكامل، فإن على الولايات المتحدة أن تعرقل طموحاتها في أوروبا، مشجعةً إياها في الوقت عينه على التوجه شرقاً نحو آسيا.

رغم آمال كثيرين في حقبة ما بعد الحرب الباردة، لن تتوافق مصالح الولايات المتحدة وروسيا في أوروبا الشرقية في المستقبل القريب، فستعتبر روسيا دوماً هذه المنطقة مدار نفوذها الطبيعي، في حين ترفض الولايات المتحدة منح موسكو هذا الامتياز، خصوصاً بعد توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال العقدين الماضيين. في المقابل، تبدو المصالح الأميركية والروسية في آسيا منسجمة تماماً، كما أشار أخيراً جون آلن غاي، فقد اعتمد المنطق الاستراتيجي وراء عملية إعادة ضبط العلاقات في هذه المنطقة على أسس ثابتة دوماً.

يكمن التحدي في دفع روسيا إلى التوجه شرقاً، فقد أرغمت التفاعلات الأوروبية خلال الحقبة المعاصرة الدولة الروسية على تبني توجه غربي، ويتجلى ذلك من خلال طبيعة هذا البلد الجغرافية (مع نشوء معظم المدن الكبرى في غرب روسيا)، وهو متأصل بعمق في ثقافة موسكو الاستراتيجية.

ولكن لا بد من أن يرغم القرن الآسيوي روسيا على الأمد الطويل على إعادة توجيه اهتماماتها شرقاً، وكما أشرتُ سابقاً، بدأنا نشهد اليوم هذا التبدل إلى حد كبير، رغم ذلك، يبقى السؤال الذي يُطرح على صانعي السياسات الأميركية: ما الخطوات التي يمكن اتخاذها لتسريع هذا التبدّل الطبيعي؟

تقضي الخطوة الأولى بعرقلة قدرة روسيا على التوسع غرباً، لا يعني ذلك أن على الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) نشر الجنود في أوكرانيا. يكفي أن يعززوا مواضع الغموض والشك في حسابات بوتين بشأن قدرة روسيا على التوسع غرباً بنجاح، والأهم من ذلك أن على الولايات المتحدة أن تؤكد لبوتين خطأ فكرته عن أن روسيا تستطيع بسهولة الاستيلاء على مناطق في أوكرانيا وأوروبا الشرقية والاحتفاظ بها.

كلما ازداد خوف بوتين من أن يفضح غزوٌ ما مدى ضعف القوات المسلحة الروسية، فيخفق هذا الغزو بالكامل أو يتحوّل إلى معضلة طويلة الأمد على غرار أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي، كلما تراجع احتمال أن يأمر القوات الروسية بعبور الحدود. ومن الجيد اليوم أن بوتين يعاني على الأرجح هواجس مماثلة، كما يتضح من خلال امتناعه عن تنفيذ غزو علني في شرق أوكرانيا.

علاوة على ذلك، من الضروري أن تواصل الولايات المتحدة التشديد على التزامها بأمن كل أعضاء حلف شمال الأطلسي، وتتعمد إشاعة جو من الغموض حول طريقة تفاعلها مع أي غزو روسي لدول في أوروبا الشرقية لا تشكّل جزءاً من الحلف، ولا شك أن هذه الخطوة ستزيد حذر بوتين من أن يصبح قوة بالغة الخطورة في أوروبا، فقد بدد أخيراً نفوذ روسيا في الجزء الأكبر من أوكرانيا، ولا يمكنه تحمّل نكسة دولية محرجة أخرى.

في الوقت عينه، ينبغي للولايات المتحدة أن تشجع روسيا على توسيع نفوذها في آسيا، مقدمةً لبوتين بالتالي مخرجاً يستطيع من خلاله تطبيق طموحاته الكبيرة التي يرسمها لروسيا، ويجب أن يتمحور الاهتمام الأكبر حول وسط آسيا، بما أن الولايات المتحدة تنسحب راهناً من أفغانستان. فنظراً إلى التوافق الكبير بين المصالح الأميركية والروسية في وسط آسيا، من الممكن تشجيع موسكو على تأدية دور بارز، ومساهمةً في ملء الفراغ الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة، علماً أن هذا ما تحاول واشنطن تحقيقه اليوم بالتعاون مع الهند في هذه المنطقة، وهكذا تستطيع موسكو ودلهي ضمان الحد الأدنى من الاستقرار في وسط آسيا بتعاونهما في وجه المجموعات الإسلامية الإرهابية المتطرفة، ولا شك أن هذا سيعود بالفائدة على الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، بينما كانت روسيا تصب اهتمامها على مناطق أخرى، سارعت الصين إلى ملء الدور الذي أدته موسكو تاريخياً في وسط آسيا، ونتيجة لذلك، يعتبر محللون كثر اليوم الصين العامل الخارجي الأكثر أهمية في وسط آسيا، علماً أن هذه مكانة احتلتها روسيا منذ القرن التاسع عشر، وتعمل الصين راهناً على تعميق موقعها الجديد هذا من خلال منظمات مثل "منظمة شنغهاي للتعاون" وحزام "طريق الحرير" الاقتصادي الجديد.

مع سعي روسيا إلى استعادة دورها في وسط آسيا، سيزداد التصادم بينها وبين الصين لاكتساب النفوذ في هذه المنطقة، ولا شك أن هذا سيضاعف لا محالة التوتر في العلاقات التي تزداد قوةً بين بكين وموسكو، وسترغم هذه التوترات روسيا على التركيز أكثر على التهديد الطويل الأمد الذي يشكّله بروز الصين على أمنها القومي، وفي حين تحاول روسيا التصدي لهذا التحدي، ستسعى بطبيعة الحال إلى تأكيد وجودها بقوة أكبر في شرق آسيا كي تحتاط من الصين.

تستطيع الولايات المتحدة أن تشجع هذه الخطوات بطرق عدة، أبرزها مساعدة روسيا على توطيد علاقاتها مع كوريا الجنوبية واليابان. في المقابل، بإمكان روسيا أن تسهّل إقامة علاقات أقوى بين الولايات المتحدة وعدد من حلفائها التقليديين في المنطقة، مثل فيتنام والهند، وهكذا ينجح بوتين في تحقيق وعوده الداخلية، مسترجعاً دور روسيا على المسرح العالمي بطريقة تتلاءم مع مصالح الولايات المتحدة لا تتضارب معها.

Zachary Keck

back to top