مناورة روسيا الشرق أوسطية

نشر في 03-06-2013
آخر تحديث 03-06-2013 | 00:01
تسعى روسيا الفدرالية إلى معالجة مخاوفها وتعزيز مصالحها من خلال تقوية دفاعاتها ضد واردات التعصب الإسلامي والتطرف في الشرق الأوسط، وحلّ الصراعات في المنطقة بالتعاون مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية والعالمية الأخرى.
 ذي تابلت في عهد القياصرة، تمحورت القضية الشرقية حول السيطرة على مضيقَي البحر الأسود وضمّ القسطنطينية، واعتبرت روسيا الشيوعية في الحال "عمال الشرق" المسلمين حلفاءها في الصراع الثوري ضد الرأسمالية والاستعمار الغربيين. ومع تحوّل الاتحاد السوفياتي إلى قوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، اضطلع بدور سياسي، وعسكري، واقتصادي أكثر فاعلية في الشرق الأوسط، الذي تحوّل إلى مسرح للحرب الباردة العالمية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

مع انتهاء الحرب الباردة، تخلى الكرملين عن حليفه العراقي، وما عاد يهتم بعملائه الباقين في المنطقة، مثل جنوب اليمن وسورية. كانت التجارب الطويلة والمؤلمة للتدخل السوفياتي في أفغانستان قد أدت إلى تنامي ما يُدعى "المتلازمة الأفغانية" في المجتمع الروسي، أي رفض التدخل، وخصوصاً التدخل العسكري، في العالم الإسلامي. نتيجة لذلك، صبت روسيا الفدرالية كل اهتمامها على نفسها ومحيطها، وتخلت فعليّاً عن مناطق كاملة كانت خاضعة للنفوذ السوفياتي، بما فيها الشرق الأوسط، ومن ثم أهملتها تماماً. صحيح أنها واصلت بيع الأسلحة إلى بعض حلفائها السابقين، بمن فيهم سورية، إلا أن هذه الصفقات باتت تستند اليوم إلى أسس عقائدية لا استراتيجية.

رغم ذلك، كشفت حرب الشيشان أن الشيشانيين الانفصاليين والإرهابيين يملكون مصادر تمويل وتجنيد ترجع في جزء كبير منها إلى الشرق الأوسط. كذلك تبيّن أن إيران دولة مجاورة مسؤولة وشريك مفيد، فلم تتدخل في الصراع الشيشاني، حتى إنها ساعدت روسيا في التفاوض بغية وضع حدّ للحرب الأهلية الدموية في طاجيكستان. كذلك مهدت الشيشان الطريق أمام ردّ فلاديمير بوتين السريع تجاه اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. فلم يرَ بوتين اختلافاً كبيراً بين تنظيم القاعدة والمتطرفين الشيشانيين. لذلك قدّم دعماً كبيراً للولايات المتحدة في أفغانستان، مع أن موسكو عارضت لاحقاً غزو الولايات المتحدة العراق. كذلك أدت الحاجة إلى محاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي إلى تحسّن التفاهم بين روسيا وإسرائيل، لكن الحرب الأهلية السورية وضعت علاقات روسيا مع الغرب، وتركيا، ودول الخليج العربي، وإسرائيل على المحك.

***

كان موقف موسكو من الربيع العربي حذراً منذ البداية، فكان باستطاعة روسيا رؤية الجذور الاجتماعية-الاقتصادية للانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، حيث فَقَدَ الحاكمان تواصلهما مع الشعب. لم يولِ الكرملين اهتماماً كبيراً بالليبراليين الموالين للغرب في كلا البلدين، الذين تمكنوا من توجيه غضب الطبقات الشعبية بهدف الإطاحة بالنظام الحاكم، إنما أخفقوا في الوصول إلى السلطة عقب الثورة. بخلاف الأميركيين والأوروبيين، لم يتوقع المسؤولون الروس أن تلي أنظمة الحكم العلمانية المستبدة ديمقراطيةٌ غربية الطراز: فقد بدؤوا يستعدون منذ البداية لثورة إسلامية كبرى تشمل المنطقة بأسرها.

قد تتطلب هذه الثورة، وفق التقييم الروسي، وقتاً طويلاً لتظهر كل معالمها، وقد تنتشر إلى دول عربية أخرى، وخصوصاً دول الخليج. نتيجة لذلك، تبنت موسكو مقاربة عملية من النظامَين الجديدَين في مصر وتونس. فحدت من حظرها السابق لجماعة الإخوان المسلمين، التي كانت قد اعتُبرت إرهابية نظراً إلى دورها في الشيشان قبل أكثر من عقد. ودعت روسيا الرئيس المصري محمد مرسي لمحادثات في سوتشي في شهر أبريل الماضي، ورغم الثورة، لا تزال مصر مقصد الكثير من السياح الروس (2.5 مليون منهم خلال عام 2012). وقد تحذو شركات الطاقة الروسية قريباً حذوهم.

تتمحور مقاربة روسيا من المسألة السورية حول تقييم واعٍ لنظام الأسد والمعارضة التي يواجهها. صحيح أن النظام عنيف جدّاً وغير مرن من وجهة نظر موسكو، إلا أنه يتمتع بصلابة وعناد كبيرين ونجح في البقاء في السلطة، وقد تبيّن أن هذا التقييم مصيب، رغم توقع الكثير من القادة الغربيين والإقليميين العكس. علاوة على ذلك، لم تنقلب بعد طبقة التجار في مناطق دمشق وحلب ضد الأسد، ربما بسبب خوفها من البديل أكثر منه من النظام الحالي.

أخيراً وآخراً من حيث ترتيب الأولويات الروسية، تعتمد سياسة روسيا السورية على مصالحها على الأرض في سورية، خصوصاً تجارة بيع الأسلحة، ومنشأة إعادة التموين البحرية المتواضعة في طرطوس، والمخاوف الإنسانية بشأن بضعة آلاف من المواطنين الروس المتزوجين من سوريين، فضلاً عن المجتمع المسيحي الأرثوذكسي في سورية.

تبدو المقاربة الروسية، وفق المنطق الجيو-سياسي الكامن والحسابات الفعلية، أكثر متانة من المقاربتَين الغربية والتركية. فلا تبدو رؤية موسكو مشوهة نتيجة التحيز في الصراع السني-الشيعي الإقليمي، الذي يتجلى اليوم بوضوح في سورية. كذلك لا ترتكز على وهم بقاء النظام طويلاً في دمشق. رغم ذلك، تضررت صورة روسيا كثيراً في أجزاء كثيرة من العالم العرب، حيث تُصوَّر على أنها صديقة أنظمة مستبدة وحليف بشار الأسد الذي يمده بالسلاح، ما يجعلها بالتالي حليف إيران. لكن الأهم بالنسبة إلى موسكو أن التطورات في سورية تؤدي إلى أسوأ نتيجة ممكنة: الإطاحة بنظام بشار الأسد وتفشي الفوضى، مع تمتع العناصر المتطرفة بالموقف الأقوى. نتيجة لذلك، تطالب موسكو منذ مدة بصفقة لتقاسم السلطة في سورية مماثلة لما شهدناه في اليمن، إلا أن دعواتها هذه لا تحظى باهتمام كبير بين المجموعات المعارضة وداعميها في الخليج وتركيا والغرب.

لم تحاول إدارة أوباما الاستعانة ببوتين بغية التوصل إلى حل سياسي ممكن يستند إلى بيان مؤتمر جنيف عام 2012، إلا عندما بدأت حسابات الغرب على الأرض في سورية بالتبدّل وبدا محتّماً أن تنجر الولايات المتحدة إلى المعمعة السورية. لا شك أن المجهود الذي ستُضطر واشنطن وموسكو إلى بذله مهول، وتبدو الظروف معاكسة جداً، ما قد يحول دون نجاح مؤتمر جنيف الجديد الشهر الجاري لكن بديل التسوية السياسية مخيف حقّاً.

***

من المبكر التحدث عن استراتيجية روسية متماسكة في الشرق الأوسط، ولكن ما يبدو جليّاً أن روسيا بدأت تخرج من الانطواء على الذات الذي شهدناه بعد الحقبة السوفياتية. فيُعتبر الأمن اليوم شغلها الشاغل، ولا شك أن التطرف الإسلامي يشكّل خطراً رئيساً، فهذه مسألة بالغة الأهمية. في المقابل، لا تزال مصالح روسيا في الشرق الأوسط متواضعة نسبيّاً، وتتمحور حول صفقات التنقيب عن النفط والغاز، جيو-سياسات خطوطهما، واتفاقات التسعير. إلا أن فرصاً أخرى تلوح في أفق مجال الطاقة النووية.

تسعى روسيا الفدرالية إلى معالجة مخاوفها وتعزيز مصالحها من خلال تقوية دفاعاتها ضد واردات التعصب الإسلامي والتطرف في الشرق الأوسط، وحلّ الصراعات في المنطقة بالتعاون مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية والعالمية الأخرى. كذلك تستخدم روسيا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتحدّ من قدرة الولايات المتحدة على التدخّل بحرية وتعيق كل محاولات تغيير النظام من الخارج. لكن هذا الدفاع عن القانون الدولي التقليدي وسيادة الدولة لا يرتبط بالنظرة العالمية المحافظة، التي تتبناها القيادة الروسية، بقدر ارتباطه بخوف الكرملين من الترويج للديمقراطية الغربية. ففي سعي موسكو إلى تعزيز دور روسيا في المنطقة، أعادت إحياء الوجود العسكري البحري الروسي الدائم في البحر الأبيض المتوسط، وإن على نطاق محدود. أما للحؤول دون بروز إيران كدولة نووية، فتفضّل روسيا اللجوء إلى المفاوضات الدولية من دون رفع الخيار العسكري عن الطاولة.

كي تروّج روسيا لمصالحها الاقتصادية، تختار الاتفاقات بين الحكومات التي تتيح لشركاتها العامة والخاصة العمل في بلدان مختلفة. ففي قطاع الطاقة، تكيّفت روسيا مع دور تركيا الجديد كمحور طاقة إقليمي، إلا أنها بذلت قصارى جهدها لتحمي حصتها من سوق الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي. ويذكّر مشروع غازبروم المكلف جدّاً، خطّ أنابيب ساوث ستريم الذي سيُبنى عبر البحر الأسود ليعبر بذلك البلقان متوجهاً إلى النمسا، بعمليات السلب التي تعرضت لها السلطنة العثمانية على يد روسيا خلال القرن التاسع عشر، إلا أنه يبرهن أيضاً التبدلات الكبيرة التي طرأت على روسيا والشرق الأوسط على حدّ سواء.

ديميتري ترينين

back to top