القومية الروسية... حان وقت القلق!

نشر في 19-10-2013
آخر تحديث 19-10-2013 | 00:01
غالباً ما تكون النزعة القومية قوة رجعية جداً، وأظن أن الليبراليين الروس يرتكبون خطأً فادحاً حين يحاولون استغلال تلك النزعة لأنهم لا يستطيعون السيطرة عليها، وعند السماح بخروج شبح القومية، فلا يمكن كبحه مجدداً.
 مجلة فوربس    أكون في العادة أكثر تفاؤلاً من معظم الغربيين في ما يخص روسيا، ولا يعني ذلك أنني مولع بالمؤسسات السياسية الراهنة في روسيا، بل إنني أكتب الكثير عن مواضيع تبدو جدية ومملة مثل الصحة والمعالم الديموغرافية، حيث تحسنت الأوضاع إلى حد كبير خلال الثلاثين سنة الماضية.

على مستوى النزعات السكانية، تجاوز الأداء الروسي منذ عام 2000 أفضل التوقعات التفاؤلية، وبعبارة أخرى، يصعب عليّ مقاومة التشاؤم العالمي تجاه هذا البلد عبر التشديد على التحسن السريع في مؤشرات أساسية مثل متوسط العمر المتوقع والخصوبة.

لكن ثمة جوانب مظلمة واضحة في روسيا المعاصرة وتحتل المشاكل المرتبطة بالهجرة الجماعية (وردود الفعل القومية التي أوحت بها) أعلى المراتب على لائحة السلبيات، إذ احتدمت تلك الاضطرابات منذ أيام في بيريولوفو، منطقة خاصة بالطبقة العاملة في جنوب موسكو.

وأشار تقرير قناة "سي بي إس" إلى ما يلي:

أدى مقتل رجل روسي إثني إلى انتشار سخط عام في موسكو ضد السكان القوقازيين، وقد اقتحم المتظاهرون أحد المراكز التجارية ومستودعاً للخضار عشية يوم الأحد، واعتقلت الشرطة مئات الأشخاص.

قيل إن الرجل قُتل على يد شخص أصله من شمال القوقاز، وهي منطقة تقع في جنوب روسيا حيث تطغى أغلبية مسلمة، ويعمل الناس من أصل قوقازي في المركز التجاري وفي أسواق عدة لبيع الخضار في أنحاء العاصمة الروسية.

يكفي أن نشاهد الفيديوهات التي تعرض تفاصيل الأحداث وتعطي نظرة وافية عن الفوضى وغضب المتظاهرين العفوي، واعتباراً من صباح يوم الاثنين، بدا وكأنّ "الهدوء" عاد إلى البلد بعد استعمال القوة من جانب الشرطة التي كانت قوية وحاسمة، حتى وفق المعايير الروسية، ويبدو أن أعمال الشغب لم تمتد إلى مناطق أخرى من موسكو أو أي مدن أخرى داخل روسيا، ولحسن الحظ لم يسقط أي قتيل، لكن جُرح العشرات واعتُقل المئات، فكان المشهد خطيراً وبشعاً بالفعل.

لكن المظاهر التي تثير القلق لا ترتبط بأعمال الشغب نفسها بل بالمشاعر القومية الإثنية التي شجّعت على ارتكاب تلك الأعمال، ولا شك أن أعمال الشغب هي مظاهر سلبية لكن لن تتأثر موسكو كثيراً بسبب إغلاق أحد أسواق الخضار، وقد تمكنت قوى الأمن لاحقاً من تفريق الحشود خلال فترة قصيرة نسبياً، وما حدث في بيريولوفو لم يكن يشبه أحداث "ميدان التحرير" التي تصاعدت سريعاً وتحولت إلى تعبئة شعبية شاملة على مستوى الوطن.

لكنّ المشاعر الجارفة التي حركت الناس في بيريولوفو، أي مشاعر الكره والخوف من الناس القادمين من آسيا الوسطى والقوقاز، بدأت تكسب زخماً إضافياً في المجتمع الروسي. كذلك، يبدو أنها تلقى قبولاً أوسع بين المعارضين لبوتين. لم يهدر ألكسي نافالني (أبرز وأشهر عضو في الحركة المعادية لبوتين حتى الآن) أي لحظة للرد على الأحداث الحاصلة في بيريولوفو. كتب نافالني رأيه على مدونته في موقع LiveJournal ولام لائحة لامتناهية من الأشخاص والمؤسسات على أعمال الشغب: الشرطة، والمحاكم، ووزارة الداخلية، وجهاز الأمن الفدرالي الروسي، والكرملين، والوافدون، والبيروقراطيون الفاسدون، ورجال الأعمال النافذون، وفلاديمير بوتين نفسه.

لكن أغفل نافالني في لائحته ذكر الجماعة الوحيدة المتورطة بكل وضوح في الأحداث: مثيري الشغب. وفق نظرية نافالني، تحصل أعمال الشغب كتلك التي وقعت في بيريولوفو بشكل عفوي، ولا يمكن لوم أي شخص أو جماعة من الشعب لأن الاضطرابات العنيفة هي نتائج حتمية لفساد وعدم فاعلية مؤسسات الدولة في روسيا.

لم "يدعم" نافالني أعمال الشغب صراحةً لأنه أذكى من أن يفعل أمراً مماثلاً، وما كان الدعم الصريح لأعمال الشغب ليعرّضه للملاحقة الجنائية فحسب، بل كان سيُضعف موقفه السياسي بين السكان الرفيعي المستوى والبارعين في استعمال الإنترنت في المدن الروسية الكبرى. يخوض نافالني، بحسب كلمات الأستاذ مارك غاليوتي من جامعة نيويورك، شكلاً من "الشعبوية الرخيصة والبغيضة"، وهي مقاربة تعترف ضمناً بجميع شكاوى القوميين تزامناً مع التزام الصمت المطبق بشأن أساليبهم التكتيكية.

إنه القرار الذي اتخذه نافالني (ويُفترض أن يتمكن الروس من التعبير عن أي آراء سياسية بكل حرية)، لكن من الواضح بالنسبة إلي أن أهداف الليبراليين والقوميين مختلفة جداً. تتعلق النزعة الليبرالية في أفضل أحوالها بالتشجيع على حرية تدفق الناس والسلع والأفكار فضلاً عن فرض قواعد واضحة للعبة شرط أن تنطبق على جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو انتمائهم الإثني. بالتالي، سترحب روسيا "الليبرالية" بتدفق "الوافدين" من القوقاز لأنهم يلعبون أدواراً مهمة في القطاعات الاقتصادية التي يتجنبها الروس الإثنيون تقليدياً، فالأمر يتعلق بتفوق فئة على أخرى وبمسائل مماثلة.

في المقابل، ستسعى السياسة القومية إلى الحفاظ على شعار "روسيا للروس"، وسيصبح المجتمع، من باب الضرورة، أقل قبولاً لجميع الفئات لأن مفهوم الهوية بُني على أساس إثني غير قابل للتغيير. ستشعر روسيا القومية بخوف أكبر وانعدام الأمان، إذ لطالما شعر هذا البلد بالقلق من "المخاطر" التي تطرحها الجهات الخارجية. سيصبح البلد أقل حيوية من الناحية الاقتصادية وأكثر تركيزاً على حماية الاستقرار.

أتمنى أن يتوسّع هامش الليبرالية في روسيا، أي أن تصبح روسيا منفتحة فعلاً على الأشخاص الجدد والأفكار والسلع الجديدة، فقد أبدو ضيق الأفق وتقليدياً في تفكيري، لكني لا أستطيع أن أتخيّل كيفية توسّع الليبرالية في روسيا نتيجة الاستعمال السلبي والمنهجي للقومية الإثنية. غالباً ما تكون النزعة القومية قوة رجعية جداً وأظن أن الليبراليين الروس يرتكبون خطأً فادحاً حين يحاولون استغلال تلك النزعة لأنهم لا يستطيعون السيطرة عليها، وعند السماح بخروج شبح القومية، فلا يمكن كبحه مجدداً.

هذا هو العامل المخيف بشأن أحداث بيريولوفو، فلا خوف من أعمال العنف نفسها، بل من الطرق التي تنظر فيها المعارضة غير النظامية إلى أعمال العنف كونها لا ترى فيها محاولة غير مبررة للعقاب الجماعي بل فرصة ممتازة لإضعاف الدولة... إنها استراتيجية مفهومة لكن نهايتها ستكون سيئة على الأرجح.

مارك أدومانيس - Mark Adomanis

back to top