العنف والإبداع

نشر في 04-04-2013
آخر تحديث 04-04-2013 | 00:01
 سامي محروم  في الفيلم البريطاني "الرجل الثالث" الذي عُرِض عام 1949، يقول هاري لايم (إحدى شخصيات الفيلم) إن إيطاليا أثناء حكم أسرة بورجيا لها في عصر النهضة، كانت تعاني "الحرب، والإرهاب، والقتل، وسفك الدماء"، ولكنها أنتجت مايكل أنجلو، وليناردو دا فينشي، والنهضة". ولكن نفس الشخص يذكر في المقابل أن خمسمئة عام من الديمقراطية والسلام في سويسرا لم تنتج أكثر من ساعة كوكو إلا قليلا.

إن التلميح أن الابتكار لا يتعزز إلا من خلال النزاعات هو بالضرورة تلميح خاطئ- فسويسرا هي الدولة رائدة الإبداع على مستوى العالم في واقع الأمر- ولكن لايم يسوق حجة بالغة الأهمية. ففي حين يُنظَر إلى أمور مثل السلام والنظام والاستقرار السياسي على نطاق واسع باعتبارها متطلبات أساسية للإبداع، وروح المبادرة والريادة، والتنمية الاقتصادية، فإن هذه القاعدة لها العديد من الاستثناءات- وخاصة عندما يتعلق الأمر بالإبداع والابتكار.

فالولايات المتحدة تحتل دوماً مرتبة متقدمة بين أكثر عشر دول إبداعاً وابتكاراً على مستوى العالم، بما في ذلك وفقاً لمؤشر الإبداع العالمي التابع للمعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (INSEAD). ولكن على مؤشر السلام العالمي، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة 88 بين 153 دولة، وعلى نحو مماثل، تحتل المملكة المتحدة وهولندا المرتبتين الخامسة والسادسة على التوالي على مؤشر الإبداع، ولكنهما تأتيان في المرتبة الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين على مؤشر السلام. وفي المقابل فإن دولة مثل مملكة بوتان تأتي بين العشرين دولة الأكثر سلمية على مستوى العالم، ولكنها لا تلحق حتى بذيل مؤشرات الإبداع.

لا شك أن الجريمة والإرهاب والصراع وعدم الاستقرار السياسي كلها عوامل قاسية بالقدر الكافي لإحداث انهيار شامل للقانون والنظام وإعاقة الإبداع والابتكار. ولكن بعض الدول تُظهِر قدراً كبيراً من المرونة في مواجهة العنف والاضطرابات.

فعلى الرغم من انتشار الجرائم العنيفة على نطاق واسع في المكسيك وجنوب أفريقيا على سبيل المثال، فإن مثل هذه الدول تتمتع بمستويات عالية من الإبداع (قياساً بعدد براءات الاختراع وتسجيل العلامات التجارية). وعندما نضع في الحسبان مؤشرات الإرهاب، فإن دولاً مثل لبنان، وتركيا، والأردن، وإسرائيل تبرز بوصفها من الدول المبدعة المرنة في مواجهة العراقيل. فتماماً كما لا يؤدي السلام والاستقرار دائماً إلى الإبداع والابتكار، فإن الاقتتال وعدم اليقين لا يردعانهما بالضرورة.

ورغم أن السلام، والاستقرار السياسي، والنظام المدني من العناصر المهمة في اختيار المواقع لعمليات الإنتاج أو الخدمات الأجنبية الكبيرة النطاق، فإن أهميتها تتضاءل كثيراً عندما يتعلق الأمر باستقدام الإبداع وإقامة الاستثمارات المرتبطة به. وبشكل خاص، تميل الصناعات الإبداعية، مثل الرسوم المتحركة، والفنون، والتصميم، والبرمجيات- والتي تقوم في الغالب على مهارات ومواهب فردية- إلى التحلي بقدر أعظم من المرونة في مواجهة الصراعات وغيرها.

ومن هنا فإن المسؤولين الرسميين، والمستثمرين، وكبار رجال الأعمال الباحثين عن الأفكار الثورية، والحلول المتطورة، والمواهب غير المستغلة لا ينبغي لهم أن يسمحوا للاضطرابات في بعض المجتمعات، أو السكينة والسلام في أماكن أخرى، بالتأثير على قراراتهم بشكل مفرط. والواقع أن خروج المرء من منطقة الارتياح والرفاهة قد يفضي إلى فوائد كبيرة.

تشير بعض الأدلة إلى أن انتشار عدم اليقين والشكوك قد يعزز المنافسة، وبالتالي يشعل شرارة الإبداع والابتكار. وعلاوة على ذلك فإن البيئات الاجتماعية التي تتسم بمستويات أدنى من التوافق ومستويات أعلى من العنف قد تكون أكثر ميلاً إلى تحفيز نوع راديكالي من الإبداع.

والواقع أن تجربة لبنان تدعم هذا التقييم، فعلى الرغم من تاريخها الطويل من العنف السياسي، فإن صناعاتها الإبداعية تتوسع، ووفقاً لدراسة أجريت عام 2007 على الصناعات القائمة على حقوق التأليف والطباعة والنشر بواسطة المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن التحديات الرئيسة التي تواجه قطاع البرمجيات في البلاد- والذي يشكل جزءاً مهماً من اقتصادها- تشمل الأسواق المقيدة، والمنافسة الشديدة، وهجرة العقول (خسارة رأس المال البشري)، وعدم كفاية السياسات الداعمة للتكنولوجيا، والافتقار إلى الحوافز التي يفترض أن تقدمها الحكومة، وتفشي القرصنة. أما العنف فإنه يغيب بوضوح من القائمة.

لا شك أن العنف يمثل مشكلة في كل الأحوال، ولكن الدول مثل لبنان أصبحت مقاومة للتأثيرات المترتبة عليه- على سبيل المثال، من خلال تنمية صناعات إبداعية- الأمر الذي يؤدي إلى تضاؤل تأثيره السلبي في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية. في عام 2005، كان 10% من كل الشركات الجديدة في لبنان في القطاع الإبداعي، وساهمت الصناعات القائمة على حقوق التأليف والطباعة والنشر بنحو 4.75% من الناتج المحلي الإجمالي.

على نحو مماثل، وبرغم المستويات المرتفعة من العنف السياسي، فإن نيجيريا تنتج أكثر من 1000 فيلم سنويا، بل إن صناعة السينما النيجيرية تحتل المركز الثالث من حيث الحجم، بعد الولايات المتحدة والهند، وتأتي في المرتبة الثانية فقط بعد إنتاج النفط من حيث أهميتها الاقتصادية للبلاد.

ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة لعام 2010 بشأن الاقتصاد الإبداعي، فإن التجارة العالمية في السلع الإبداعية سجلت نمواً سنوياً بمعدل 14% من عام 2002 إلى عام 2008. ومن ناحية أخرى، فإن الصادرات من هذه السلع من الدول النامية، التي تميل إلى المعاناة من قدر أعظم من العنف، سجلت نمواً بمعدل 13.5%، لكي تبلغ 176 مليار دولار أميركي (43% من إجمالي التجارة العالمية في الصناعات الإبداعية) في عام 2008. ورغم أن إجمالي التجارة العالمية تراجع بنسبة تتجاوز 12% في ذلك العام، فإن التجارة في السلع والخدمات الإبداعية استمرت في التوسع. وينطوي هذا على دلالات بالغة الأهمية بالنسبة إلى زعماء السياسة وكبار رجال الأعمال، وخاصة في المناطق المضطربة مثل الشرق الأوسط.

ولتعزيز النمو الاقتصادي والإبداع وسط الصراع والاضطرابات، فيتعين على صانعي السياسات والمستثمرين أن يركزوا على بناء الصناعات الإبداعية. فالقدر الذي توفره هذه الصناعات من المرونة والقدرة على التكيف يشكل أهمية بالغة في دعم النمو الاقتصادي الطويل الأمد وخلق فرص العمل، بصرف النظر عما قد يأتي به المستقبل.

* المدير الأكاديمي للإبداع والسياسة في المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (INSEAD).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top