الارتجال سبب التشدد الأوروبي الجديد

نشر في 15-02-2013
آخر تحديث 15-02-2013 | 00:01
المؤرخون الذين يراجعون السنتين الأخيرتين يقعون في الحيرة... لمَ شنت بعض دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا، حروباً جديدة في فترة من الاضطرابات المالية الحادة والتخفيضات في الميزانية الدفاعية؟
 وورلد بوليتيكس ريفيو عاد الجنود الأوروبيون، الذين هزأ بهم المحللون الأميركيون خلال السنوات الأخيرة، إلى الساحة، فقد دفع التدخل الفرنسي في مالي المحللين السياسيين على جانبي الأطلسي إلى التساؤل، حسبما قالت آن أبليبوم من صحيفة "واشنطن بوست"، عما إذا "كان باستطاعة الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور الشرطي في العالم". فقد أثار استعداد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لخوض حرب حماسة مَن يعتبرون أن إدارة أوباما تبالغ في الحذر عند لجوئها إلى القوة العسكرية. وذكر فيليب ستيفنز في صحيفةFinancial Times أن "الأوروبيين أصابتهم عدوى التدخل في وقت تحاول الولايات المتحدة التخلص منها".

لكن هذا النوع من التحليل تشوبه فجوات واضحة، فكما أشار ستيفنز، تفتقر الدول الأوروبية إلى الوسائل العسكرية كي تقود عمليات تدخل واسعة النطاق. على سبيل المثال، لا يزال عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان يفوق ما نشرته فرنسا في مالي بنحو 20 ضعفاً، وكما ذكرت أبلبوم، تصعّب الاضطرابات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي على هذا الكيان العمل بفاعلية في الخارج. فلا تشاطر ألمانيا فرنسا وبريطانيا مصالحهما في الحملات التي تقودانها في إفريقيا. كذلك لم تُثِر هذه العمليات اهتمام دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا.

لكن المؤرخين الذين يراجعون السنتين الأخيرتين يقعون في الحيرة. لمَ شنت بعض دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا، حروباً جديدة في فترة من الاضطرابات المالية الحادة والتخفيضات في الميزانية الدفاعية؟

رغم هذه العوامل والتشكيك العام في فاعلية التدخل بعد حرب أفغانستان، لم تكتفِ فرنسا بالتدخل في مالي، بل استخدمت القوة أيضاً لتنهي الأزمة في ساحل العاج عام 2011. كذلك انضمت بريطانيا إلى فرنسا في الضغط للتدخل في ليبيا، ومع أن ألمانيا رفضت دعم هذا الخيار في الأمم المتحدة، انضمت دول أخرى في حلف شمال الأطلسي بسرعة إلى حملتهما هذه، بدءاً من بلجيكا وحتى النرويج. ونرى باريس ولندن اليوم، حسبما يشير ستيفنز، "في طليعة الداعين إلى التدخل في سورية".

ثمة أسباب تجعل عدوى التدخل سريعة الانتشار، على ما يبدو. يتحدر رئيس الوزراء البريطاني ومستشاروه من جيل سياسي تأثر بعمقٍ بإخفاق الغرب في إنقاذ حياة كثيرين خلال الصراع في يوغوسلافيا. ولا يريدون تكرار أخطاء تلك الحقبة. كذلك سعد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بممارسة دبلوماسية الأزمات، سواء شملت القيام بوساطة بالغة الأهمية مع روسيا خلال حرب جورجيا عام 2008 أو شن ضربات جوية ضد ليبيا. صحيح أن هولاند، الذي أمر بإخراج الجنود الفرنسيين من أفغانستان عندما تسلم زمام السلطة الصيف الماضي، وعد بممارسة حذر أكبر خلال عهده، إلا أنه حقق، رغم ذلك، مكاسب سياسية من التدخل في مالي.

قد يُظهر التاريخ أن المغامرات العسكرية الأوروبية هذه كانت ضرورية لا بسبب المفاجآت الاستراتيجية والحسابات الدبلوماسية الخاطئة فحسب، بل بسبب تبني أوروبا طوعاً سياسات التدخل، أيضاً. لكن محاولة جمع هذه في رواية شاملة عن التشدد الأوروبي مضللة بقدر ما هي ممتعة.

لم يُتخذ قرار تنفيذ العملية الفرنسية في ساحل العاج أو في مالي بسهولة وسرعة. كانت فرنسا تملك جنوداً في ساحل العاج، عندما تفشت أعمال العنف في أواخر عام 2010، ولكن خوفاً على حياة الفرنسيين المدنيين في هذا البلد، قررت فرنسا التريث بادئ الأمر، متيحة للوسطاء الأفارقة محاولة حلّ هذه الأزمة، ولم يأمر ساركوزي القوات الفرنسية بالتدخل إلا مع اقتراب هذه الأزمة من ذروتها، حين بدا أن مدينة أبيدجان ستغرق في الدماء. في هذه المرحلة، كانت آلاف الأرواح قد زُهقت.

كانت فرنسا أكثر حذراً في مقاربتها في مالي، متفاديةً التدخل طوال تسعة أشهر، بعد أن احتل الثوار النصف الشمالي من البلد، وبدل أن ترسل قواتها الخاصة، سعت إلى حض حكومات غرب إفريقيا على أن تُرسل هي قواتها. وشملت مناورات فرنسا مفاوضات معقدة مع الجزائر، التي قلقت من أن يتفاقم الصراع على حدودها الجنوبية. لكن المسؤولين الأميركيين شكوا في أن تحقق الخطة الفرنسية النجاح.

لم يوافق هولاند على التدخل المباشر إلا بعد أن شنّ الثوار هجوماً هدد بسقوط ما تبقى من البلد في مطلع شهر يناير. كانت الفاعلية التي نُشرت بها القوات الفرنسية والسرعة التي قدمت فيها الأمم الإفريقية، مثل تشاد، الدعم قد أقنعت بعض المراقبين أن فرنسا كانت أكثر استعداداً للتدخل مما ادعت سابقاً، لكن من الطبيعي أن يكون الجيش الفرنسي قد وضع خططاً لعمليات طارئة. رغم ذلك، حاول هولاند تفادي التدخل العسكري المباشر في مالي قدر الامكان، واستثمر الكثير من رأس ماله الدبلوماسي لتحقيق ذلك.

لا داعي لأن يقلق هولاند لأن التدخل في ليبيا، الذي يُعتبر أحد أهم إنجازات ساركوزي الرئاسية، جاء أيضاً بطريقة عشوائية. فخلال الموجة الأولى من العنف في ليبيا في شهر فبراير عام 2011، كان الرد الأوروبي العام غير منظم. فقد ركزت المملكة المتحدة على إخراج مواطنيها من البلد (من المحرج أن الثوار الليبيين احتجزوا مجموعة من رجال الاستخبارات البريطانيين في شرق البلاد). أما أمين عام حلف شمال الأطلسي، فوغ راسموسين، فأعلن أن الحلف لا ينوي التدخل في حرب أهلية. وعندما أصرت فرنسا وبريطانيا على القيام بعمل عسكري في مارس عام 2011، كانتا تخططان لفرض منطقة حظر جوي فحسب، علماً أن هذه الخطوة وحدها ما كانت لتحدث على الأرجح فارقاً كبيراً.

دفع الإصرار الفرنسي-البريطاني إدارة أوباما إلى اقتراح تدخل أوسع، وكما ذكرتُ في مقال عن الدبلوماسية الفرنسية في الأمم المتحدة نُشر في WORLD POLITICS REVIEW السنة الماضية، شكّل ذلك انتصاراً حقيقياً، ولكن من الضروري أن نتذكر أن الحملة الليبية لم تأتِ نتيجة تخطيط أوروبي مسبق دقيق. ولا عجب في ذلك نظراً إلى السرعة التي تطورت فيها الأحداث في شمال إفريقيا وليبيا في مطلع عام 2011، ولكن حتى بعد بدء حلف شمال الأطلسي عملياته الجوية الموسَّعة، شعر الكثير من المسؤولين البريطانيين والفرنسيين أن قرار التدخل خطأ، وأشار البعض إلى أن التخطيط الأوروبي لعمليات ما بعد الحرب كان محدوداً، فقد ساهم تدفق المرتزقة والأسلحة إلى خارج ليبيا في زعزعة الاستقرار في مالي.

على نحو مماثل، تبدو المواقف الأوروبية المطالبة بتدخل في سورية غير منظمة، فقد اقترح وزير الخارجية الفرنسي آنذاك آلان جوبيه فتح ممرات إنسانية في سورية في أواخر عام 2011. ولكن طوال الجزء الأكبر من 2012، ركز البريطانيون والفرنسيون على المسار الدبلوماسي في الأمم المتحدة بدل التدخل العسكري. صحيح أن كاميرون فضل، حسبما يُقال، مقاربة أكثر تشدداً في وقت سابق، لكن المسؤولين البريطانيين بذلوا قصارى جهدهم لإقناعه بالعدول عن ذلك. وإن كانت باريس ولندن تقفان اليوم "في طليعة" المطالبين بتدخل في سورية، فذلك لأنهما جربتا طوال السنتين الماضيتين كل بديل ممكن، وما عاد أمامهما خيارات كثيرة.

قد يكون هذا التفسير الأفضل لمعاودة الميل إلى التدخل والظهور في مناظرات السياسة الأوروبية عموماً، فخلال السنتين الماضيتين، حاولت الحكومات الأوروبية تحديد وتطبيق الأدوات الدبلوماسية غير العسكرية التي تحتاج إليها لتصوغ الأحداث في محيط يزداد اضطراباً. نادراً ما كان اللجوء إلى القوة الخيار الأول... لكنه كثيراً ما كان الخيار الوحيد المتبقي مع اشتداد الأزمات. صحيح أن الحملات العسكرية الأوروبية الأخيرة أظهرت أن أعضاء الاتحاد الأوروبي ليسوا ضعفاء، لكن عمليات التدخل هذه جاءت ارتجالية وليست جزءاً من استراتيجية كبرى.

* ريتشارد غوان | Richard Gowan

back to top