الحفريات المعرفية... وأتربة الزمن

نشر في 31-05-2013
آخر تحديث 31-05-2013 | 00:01
 لمى فريد العثمان حتى نفهم كيف وصل الغرب إلى لحظة الحداثة، بينما نستورد نحن قشورها ونرمي لبها في سلة المهملات، ينبغي أن نفهم المنهج الذي طوره ميشيل فوكو لدراسة الطبقات التاريخية للأنظمة الفكرية، وهو المنهج الأركيولوجي أو الحفري لتاريخ الفكر. فالتحقيب والغور في الأعماق التاريخية للأنساق والبنيات الفكرية والسلطوية والدينية والاجتماعية كفيل بتعرية الجذور اللامرئية لتشكل المفاهيم والقيم والثقافة والأنسقة السلطوية في التاريخ، وهو بذلك (أي منهج حفريات المعرفة) يعمل على تفكيك وتحرير القيم والأفكار من القيود، وكشف البنى التأسيسية للتراث والفكر الأسطوري المدفون تحت ركام التاريخ، وهي المعركة المضنية التي خاضها التنويريون في أوروبا مع تراثهم، إلا أننا في عالمنا القديم لم نبرح تلك اللحظة القروسطية، ومازلنا نقبع تحت كثبان رمالها المتكدسة.

يفرق الأستاذ هاشم صالح في شرحه لمفهوم "أركيولوجيا الحداثة" بين التحقيب المعرفي والتحقيب الزمني أو السياسي للفكر، ذلك أنه، كما يعبر، "قد تتغير العصور والسلالات الحاكمة والأنظمة السياسية، ويبقى الفكر، في عمقه الأركيولوجي (الحفري)، على حاله لا يتغير... فالقطيعة السياسية لا تؤدي بالضرورة إلى القطيعة الابستمولوجية (المعرفية)".

يشرح ميشيل فوكو كيف تحولت أوروبا من العالم القديم إلى العالم الجديد، عبر القطيعات المعرفية للبنى الفكرية القديمة التي اتسمت بها كل حقبة، والتي فصلت كل مرحلة تاريخية عن الأخرى، وتخلص الإنسان فيها من قيود نظامها الفكري ووعيها المعرفي القديم، الذي سيطر على كل مرحلة من التاريخ. وهي المرحلة التي يبدأ فيها البشر التفكير بطريقة جديدة تختلف عن الطريقة التي كانت سائدة ومهيمنة. وقد حدد فوكو انقطاعات كبرى تمت فيها التحولات الفكرية، حدثت الأولى في القرن السابع عشر حين قطع الفكر الديكارتي مرحلة النظام الفكري القروسطي الأسطوري، والثانية حين حل نظام فكر الحداثة محل منهجيته المعرفية في نهاية القرن الثامن عشر مع ظهور فلسفة كانط والعلوم الإنسانية.

هكذا إذاً تتحرك المجتمعات عبر القطيعات المعرفية والنقد الدائم للبنى والسلطويات القديمة، والسلطوية في المفهوم الحديث لا تعني فقط ممارسة الحكم للقمع السياسي، بل تشمل أيضاً الممارسة السلطوية والهيمنة للأنظمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وعملية التحرر تشمل التحرر من السجون العقلية والنفسية ومن القهر الاجتماعي ومن الهيمنة السياسية والمعرفية والاقتصادية. فالنظام المعرفي الفكري للمجتمعات هو الذي يشكل الطريقة التي يفكر بها الناس والقيم التي يؤمنون بها والخطاب الذي يتداول، سواء المتطرف أو الحر أو المبدع. فإن أردت أن تعرف مستوى حرية الإنسان ووعيه وإرادته في أي مجتمع فانظر للبنى والأنساق الفكرية المهيمنة عليه.

وحتى يُكتشف المشروع النقدي للمفكر د. محمد أركون وتُطبق دعوته لتوظيف أدوات المعرفة الأركيولوجية الحفرية لقراءة تاريخ الفكر الإسلامي قراءة جديدة لما يسميه "اللامفكر فيه"، ستظل تتكدس علينا أتربة الزمن وسنبقى نراوح مكاننا. وهي دعوة لدراسة الطبقات التراكمية للتراث وأنساقه الفكرية التي تشكلت عبر القرون، من خلال علوم الانثربولوجيا واللسانيات والمنهجيات الحديثة، حتى يتمكن العقل من التحرر من انغلاقات بنية نظامه المعرفي، الذي تمارسه المذاهب والأنساق والنظم المختلفة التي تحمل نفس البنية الدوغمائية الأحادية الرافضة للآخر. وبغير هذه القراءة الأركيولوجية لن نتمكن من العبور من السياج القروسطي أو تجاوز "الانسداد التاريخي".

back to top