العلاقة الأميركية الأوروبية بين الأمس واليوم

نشر في 27-09-2013
آخر تحديث 27-09-2013 | 00:01
يتناقش البعض حول العلاقات العابرة للأطلسي، هي لم تختفِ بعد ولم تتزعزع، فيأتي الأوروبيون إلى الولايات المتحدة ويذهب الأميركيون إلى أوروبا ويستمتع كل واحد منهم في بلد الآخر، لكن يبقى الرابط ضعيفاً. صرنا نقضي العطلات في الأماكن التي خضنا فيها الحروب معاً، فيصعب أن نبني سياسة مشتركة للتعامل مع سورية في ظل هذا الإطار، فكيف بالحري استراتيجية خاصة شمال الأطلسي؟
 ستراتفور . أكتب هذه المقالة من اليونان بعد أن أمضيتُ الأسبوع الماضي في أوروبا وتنقّلتُ بين مختلف العواصم، تتعلق معظم النقاشات التي خضتها خلال رحلاتي بفشل الرئيس الأميركي باراك أوباما في التحرك بشكل حاسم ضد سورية وتفوق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عليه، ولا شك أن التدخل في سورية له جوانب عدة لكن لم يتم التدقيق بأحد أهم تلك الجوانب المرتبطة بوضع العلاقات الأميركية الأوروبية والعلاقات بين الدول الأوروبية، إنها أهم مسألة مطروحة الآن على الأرجح.

ساهمت العلاقة الأميركية الأوروبية في رسم معالم القرن العشرين، وساعد التدخل الأميركي على الفوز بالحرب العالمية الأولى مثلما ساهم في ضمان انتصار الحلفاء في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. كانت الحرب الباردة مسألة عابرة للأطلسي وقد أدت إلى انسحاب القوات السوفياتية من شبه الجزيرة الأوروبية. السؤال المطروح الآن هو الآتي: كيف ستكون العلاقة بين هذين الكيانين الاقتصاديين العظيمين اللذين يشكلان معاً حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال القرن الحادي والعشرين؟ هذا السؤال يخيّم على جميع المسائل الأخرى عالمياً.

مفهوم متقلّب

تُلمح الأحداث المحيطة بالتدخل في سورية (قرار لم يتبلور على أرض الواقع) إلى الإجابة عن ذلك السؤال، لم تبدأ الأزمة السورية مع الادعاء الأميركي بضرورة التحرك ضد إقدام الأسد على استعمال الأسلحة الكيماوية بل مع دعوات المملكة المتحدة وفرنسا وتركيا إلى تنفيذ عمليات عدائية. ترددت الولايات المتحدة في البداية لكنها عادت وانضمت في نهاية المطاف إلى هذه الدول الأوروبية وغيرها. في تلك المرحلة بدأت آراء الأوروبيين تتباعد. في المملكة المتحدة، صوّت البرلمان ضد التدخل، وفي تركيا، فضلت الحكومة التدخل على نطاق أوسع مما أرادته الولايات المتحدة. وفي فرنسا التي كانت تستطيع تقديم يد المساعدة، أيّد الرئيس قرار التدخل لكنه واجه برلماناً أقل حماساً منه تجاه هذا التحرك.

أهم ما يلفت النظر في هذا الوضع هو الانقسام القائم في أوروبا. حدد كل بلد ردّه الخاص (أو فضّل عدم الرد) على الأزمة السورية. اتخذت ألمانيا الموقف الأبرز حين أبدت عدم استعدادها للمشاركة ثم عدم استعدادها لدعم قرار المشاركة في مرحلة لاحقة. سبق أن تحدثتُ عن تفكك أوروبا، لا شيء يصدم أكثر من انقسام السياسة الخارجية بين فرنسا وألمانيا، لا بشأن سورية فحسب بل مالي وليبيا أيضاً. كانت الحاجة إلى تعزيز الترابط بين فرنسا وألمانيا على المستوى الاقتصادي أحد أبرز المحرّكات وراء نشوء الاتحاد الأوروبي ومختلف الأحداث بعد حقبة الحرب. كان التباعد الفرنسي الألماني أساس الحروب الأوروبية؛ لذا كان لا بد من تجنبه بأي ثمن.

لكن ها قد عاد ذلك التباعد الآن، فلا تظهر الاختلافات بينهما بشكل واضح كما حصل قبل عام 1945، لكن ما عدنا نستطيع القول إن سياساتهما الخارجية متناسقة، بل إن القوى الأساسية الثلاث في شبه الجزيرة الأوروبية تطبق راهناً سياسات خارجية مختلفة جداً. تسير المملكة المتحدة في الاتجاه الذي يناسبها وتفضّل الحدّ من تورطها في أوروبا وتحاول إيجاد مسارها الخاص بين أوروبا والولايات المتحدة. تركز فرنسا من جهتها على الجنوب والمتوسط وإفريقيا، بينما تحاول ألمانيا الحفاظ على منطقة التجارة وتحوّل أنظارها شرقاً نحو روسيا.

لم يتفكك شيء في أوروبا، لكن لطالما كان مفهوم أوروبا الموحدة متقلباً. الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن منطقة تجارة حرة تستثني بعض الدول الأوروبية، إنه اتحاد نقدي يستثني بعض أعضاء منطقة التجارة الحرة، لديه برلمان خاص به لكنه يترك مسائل الدفاع والسياسة الخارجية كي تتولاها الدول المستقلة، ولم يصبح الاتحاد أكثر تنظيماً منذ عام 1945، بل إنه أصبح أقل تنظيماً على مستويات أساسية عدة، ففي المجالات التي شهدت سابقاً انقسامات جغرافية فقط، تبرز الآن انقسامات حول مختلف المفاهيم. اتضحت الاختلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا خلال الأزمة السورية، ولو اختار الرئيس أوباما التدخل، لكان يمكنه أن يتحرك في سورية بالشكل الذي يعتبره مناسباً، بمعنى أنه ما كان يحتاج بالضرورة إلى موافقة الكونغرس لكنه سعى إلى الحصول على تلك الموافقة في مطلق الأحوال. لم تكن أوروبا تستطيع التحرك نظراً إلى غياب أي سياسة أوروبية خارجية أو دفاعية موحدة، لكنّ أهم ما في الأمر هو عدم قدرة أي دولة أوروبية فردية على شن اعتداء جوي ضد سورية من تلقاء نفسها. أثبتت تجربة ليبيا أن فرنسا وإيطاليا لا تستطيعان تنفيذ حملة جوية متواصلة، كانتا تحتاجان إلى الولايات المتحدة.

رعاة بقر وساذجون

هنا في أوروبا، يتعرض أوباما لانتقادات كثيرة بسبب طريقة تعاطيه مع قرار التدخل في سورية، وتسود أيضاً قناعة عامة مفادها أن سياسة بوتين الخارجية فاشلة، لكني كبير بما يكفي لأتذكر أن الأوروبيين لطالما اعتبروا الرؤساء الأميركيين ساذجين كما قالوا عن جيمي كارتر، أو رعاة بقر كما قالوا عن ليندون جونسون، وكانوا يزدرون بهم في مطلق الأحوال. (كان ريتشارد نيكسون الذي حظي باحترام الفرنسيين استثناءً مثيراً للاهتمام عن القاعدة). بعد أن أبدى اليسار الأوروبي حماساً غير منطقي، بات أوباما يُعتبر الآن ساذجاً بعد أن اعتُبر جورج بوش الابن راعي بقر.

ينشغل الأوروبيون بالرؤساء الأميركيين أكثر مما ينشغل الأميركيون بالقادة الأوروبيين، وتكون آراؤهم لاذعة وسلبية في معظمها بشأن من يتولى الرئاسة الأميركية. لطالما كان ردي على هذه الانتقادات شائكاً، لنتخيل أن القادة المحنّكين كانوا يملكون أسلحة نووية في عامي 1914 و1939. هل تظنون أن المسؤولين عن إطلاق حربين مريعتين كانوا سيقاومون استعمال الأسلحة النووية؟ من حسن حظ أوروبا أنّ الأوروبيين ما كانوا يستطيعون الضغط على الزناد حين كان القادة مستعدين لاستعمال الأسلحة النووية.

تلك الأسلحة كانت تحت سيطرة رعاة البقر والمغفلين الأميركيين و"المتآمرين" الروس (هذا هو رأي الأوروبيين بجميع القادة الروس). وسط تعمّق الخلافات وانعدام الثقة، نجح القادة الأميركيون والسوفيات في تجنب الأسوأ، وكان قادة أوروبا، نظراً إلى سجلهم المعروف، لِيُغرقوا العالم في كارثة إضافية. يحمل الأوروبيون نظرة إيجابية إلى دبلوماسيتهم المعقدة، ولم أفهم يوماً سبب موقفهم هذا.

تختلف المشاعر السائدة في أنحاء أوروبا، إذ كان البريطانيون غير مبالين بهذه المسألة كلها وركزوا اهتمامهم على موقف الاحتياطي الفدرالي، وشعر الأوروبيون الشرقيون من جهتهم بالضغوط التي يمارسها عليهم الروس (على أرض الواقع وفي كوابيسهم) وما كانوا يستطيعون تخيّل السبب الذي يجعل الأميركيين يضعونهم في هذا الموقف. أخبرني دبلوماسي لطيف من القوقاز أنه تساءل عما إذا كان الأميركيون يدركون أنهم يخوضون مواجهة حاسمة مع الروس. رأي الأميركيين بأوروبا هو خليط من اللامبالاة والحيرة، لم تعد أوروبا تهمّ الولايات المتحدة كثيراً منذ نهاية الحرب الباردة، ومنذ حرب الخليج الأولى، تركّز اهتمامها على العالم الإسلامي ولو بدرجات متفاوتة. كانت أوروبا تُعتبر مكاناً بعيداً ومزدهراً، أو كما قلتُ في عام 1991 أصبحت أوروبا كلها أشبه بإسكندينافيا. كانت مزدهرة جداً وبدت زيارتها ممتعة لكنها ليست مكاناً يُصنع فيه التاريخ.

عندما يتنازل الأميركيون ويفكرون بأوروبا، هم يعتبرونها قارة لها آراء قوية بشأن قرارات الآخرين لكن من دون أن تميل إلى التحرك بنفسها. أخبرني دبلوماسي أميركي: "أنا أقصد باريس دوماً إذا أردتُ أن أعرف ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة". من وجهة نظر الولايات المتحدة، أوروبا هي قارة غير متعاونة ومزعجة لكنها تبقى ضعيفة وبالتالي غير مؤذية. الأوروبيون مهووسون بالرئيس الأميركي لأنه نافذ جداً حتى لو كان مغفلاً أو راعي بقر، ولا يبالي الأميركيون من جهتهم بالأوروبيين، ولا يعني ذلك أنهم لا يشملون قادة رفيعي المستوى بل إنّ سياساتهم تؤثر في بعضهم بعضاً أكثر مما تؤثر في الولايات المتحدة. لا يقدّر الأميركيون أوروبا ولا يفهمون ما يحصل هناك، ولا أعرف أيضاً ما إذا كان الأوروبيون يفهمون ما يحصل عندهم.

لكن لا يرتبط أعمق شرخ بين الأميركيين والأوروبيين بالآراء والمواقف المتبادلة، بل بمفهوم التفرّد، وينجم عدد من الانطباعات الغريبة أو الاختلافات العميقة بين الطرفين عن هذا المفهوم. على سبيل المثال، أخبرني أحد أصدقائي أنه يتكلم أربع لغات بينما يبدو الأميركيون عاجزين عن تعلم لغة واحدة، فقلتُ له إنه سيحتاج إلى تكلم أربع لغات إذا قام برحلة خلال عطلة نهاية الأسبوع بينما لا يحتاج المواطنون الأميركيون إلى تعلّم أربع لغات لقطع مسافة 3 آلاف ميل، فالحوار بين أوروبا والولايات المتحدة هو حوار بين كيان واحد و"برج بابل".

الولايات المتحدة بلد موحّد له سياسات اقتصادية وخارجية ودفاعية موحدةن وفي المقابل، لم تتماسك أوروبا بالكامل يوماً، وقد بدأت تتفكك خلال السنوات الخمس الماضية، فالانقسام، فضلاً عن التفاخر الهائل بذلك الانقسام، هو إحدى خصائص أوروبا البارزة. في المقابل تُعتبر الوحدة، فضلاً عن القناعة المدهشة بأن كل شيء بدأ يتفكك، أبرز ما يميز الولايات المتحدة.

هوس وخوف

ماضي أوروبا عظيم ويمكن رؤية تلك العظمة في شوارع أي عاصمة أوروبية، لكن يبدو أن ماضيها يطاردها ويرعبها، فلم يتحدد مستقبلها بعد، لكن يتسم حاضرها بإنكار الواقع والابتعاد عن الماضي، فالتاريخ الأميركي أقل عمقاً، بنى الأميركيون مراكز تسوق فوق ساحات القتال ثم هدموا المباني بعد 20 سنة، فهذا البلد يعاني فقدان الذاكرة، والولايات المتحدة مهووسة بمستقبلها بينما تبقى أوروبا مشلولة بسبب ماضيها.

كل مرة أزور فيها أوروبا (أنا مولود في أوروبا أصلاً)، أندهش بدرجة الاختلاف بين المكانين، وأندهش أيضاً من كره وازدراء الأوروبيين بالولايات المتحدة، كما أندهش بلامبالاة الأميركيين بهذا الأمر.

يتناقش البعض حول العلاقات العابرة للأطلسي، هي لم تختفِ بعد ولم تتزعزع، فيأتي الأوروبيون إلى الولايات المتحدة ويذهب الأميركيون إلى أوروبا ويستمتع كل واحد منهم في بلد الآخر، لكن يبقى الرابط ضعيفاً. صرنا نقضي العطلات في الأماكن التي خضنا فيها الحروب معاً، فيصعب أن نبني سياسة مشتركة للتعامل مع سورية في ظل هذا الإطار، فكيف بالحري استراتيجية خاصة شمال الأطلسي؟

George Friedman جورج فريدمان

back to top