محاولة فهم طبيعة باكستان ومستقبلها السياسي

نشر في 22-01-2013
آخر تحديث 22-01-2013 | 00:01
تملك باكستان جيشاً أقوى من الحكومة المدنية وكثيراً ما كان الوضع كذلك. هي تشمل أيضاً أكثر من 166 جماعة إرهابية تنشط في داخلها، ويحصل بعضها على دعم الجيش النافذ، بينما يعمل بعضها الآخر كقوى عميلة في كشمير وأفغانستان المجاورتين.
 ذي كومنتاتر كان هذا الأسبوع حافلاً بشكل استثنائي حتى وفق المعايير الباكستانية. أدت الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت منطقة هزارة الشيعية في كويتا إلى قتل أكثر من 100 شخص، فانتشرت احتجاجات واسعة وأُقيلت جمعية بلوشستان المنتخبة وفُرض قانون المحافظات، كذلك ارتفعت حدة التوتر على الحدود مع الهند بعد مقتل جنود من الطرفين.

على صعيد آخر، نظّم رجل الدين المعتدل، طاهر القادري، مسيرة طويلة في العاصمة للمطالبة بحل الحكومة المنتخبة الراهنة والدعوة إلى تكوين حكومة حيادية لتصريف الأعمال والإشراف على انتخابات جديدة. أخيراً، أصدرت المحكمة العليا أمراً باعتقال رئيس الوزراء الراهن بعد اتهامه بالفساد. نعم، حصلت هذه التطورات كلها خلال أسبوع واحد.

اعتبر الكثيرون منذ سنوات أن باكستان بلد "ميؤوس منه"، لذا توقفوا عن محاولة فهم التطورات الحاصلة فيه. لكن هذا الخيار ليس وارداً بالنسبة إلى الجميع للأسف. ما يحدث أمر مأساوي وغريب ومرعب ولا بد من التحدث عنه علناً.

لا يمر أسبوع واحد في باكستان من دون صدور أنباء عن وقوع اعتداء إرهابي كبير، وإذا لم تقع أعمال إرهابية عشوائية تستهدف الأقليات الإثنية أو الدينية أو السياسية، تتعرض طالبات لإطلاق النار لأنهن يقصدن المدرسة، أو يُقتل العاملون في حملة تطعيم لقاحات الشلل لأنهم يقومون بعملهم، أو يُقتل مسيحي بعد اتهامه بالتجديف، ونادراً ما يتم إلقاء القبض على المجرمين وسرعان ما ينسى الجميع هؤلاء الضحايا مع ظهور أنباء جديدة وحصول تطورات مريعة أخرى.

يبدو أن البلد بدأ ينهار فعلاً. هو يمزق نفسه بنفسه بسبب أعمال العنف ومشاعر التعصب والكره. لكن هذا الوضع لا يخص دويلة صغيرة وغير مهمة. بل يشمل هذا البلد 170 مليون نسمة، وهو يقع في نقطة استراتيجية بين إيران والهند والصين ويشهد أسرع نمو لأي ترسانة نووية في العالم. هذا البلد يتمتع بإمكانات مهمة في قطاعات السياحة والزراعة والأعمال والرياضة، ولطالما كان تاريخه غنياً في مجالات الفن والشعر والموسيقى والهندسة المعمارية. لهذه الأسباب، تتخذ أزمة البلد الراهنة منحىً مؤسفاً بالفعل.

تملك باكستان جيشاً أقوى من الحكومة المدنية ولطالما كان الوضع كذلك. هي تشمل أيضاً أكثر من 166 جماعة إرهابية تنشط في داخلها، ويحصل بعضها على دعم الجيش النافذ، بينما يعمل بعضها الآخر كقوى عميلة في كشمير وأفغانستان المجاورتين.

على صعيد آخر، من المعروف أن السلطة القضائية ووسائل الإعلام هي على درجة عالية من التسييس. لا أحد مقتنع بالبقاء في مكانه بل يسعى الجميع إلى زيادة نفوذهم وسلطتهم. في هذا البلد، لم تُنْهِ أي إدارة مدنية ولايتها في الحكم، وذلك لأسباب مختلطة تتراوح بين قلة الكفاءة وضعف النفوذ أمام الجيش القوي. يضم البلد أحزاباً سياسية غير فاعلة وفاسدة (الأحزاب التي تشارك في الانتخابات الديمقراطية لا تتم إدارتها بشكل ديمقراطي بعد، نظراً إلى انتشار ظاهرة الوراثة السياسية حيث يرث الأبناء القيادة من أهلهم).

في هذا البلد، تصل أسلحة القرن الواحد والعشرين إلى يد أشخاص من القرن الخامس عشر. تتوافر المسدسات والبنادق والأسلحة الرشاشة بكميات كبيرة ويسهل شراؤها من الأسواق المحلية. يبدو أن مهارات تصنيع القنابل تطغى على جميع المهارات الأخرى، لو كان الأمر ممكناً، لحصلت باكستان على براءة اختراع باعتبارها أبرز جهة مبتكِرة في العالم.

في هذا البلد، يعيش الجميع حالة إنكار لمآسيهم، يبدو أن الحالة النفسية العامة في باكستان تعجز عن فهم واستيعاب المصير الذي يواجهه البلد، لا تستطيع باكستان التوفيق بين رؤيتها الإيجابية تجاه الشخصيات الدينية والتطرف الديني المترسخ في كل زاوية من شوارع وأزقة البلد. يبدو أنها تفتقر إلى النضج الكافي للبحث عن الحلول محلياً، لذا تفضّل اتهام القوى الخارجية وتخيّل وجود مؤامرات كارثية ضدها.

من الواضح أن استمرار أعمال العنف والفوضى والمجازر والارتباك السياسي كان له تأثير عميق على الوضع النفسي العام في البلد، لقد تبخر التفكير السليم وانهار حس المنطق، لهذه الأسباب تحديداً، لا نفع من صياغة أو ابتكار حلول عملية في أغلب الأحيان، تعني مشاعر الكره والعداوة بين الجماعات الإثنية والدينية والسياسية المتخاصمة عدم وجود "وطن" اسمه باكستان.

لا وجود لوطن باكستان. لقد تبخر مفهوم الوطن في ذلك البلد في عام 1971، حين انفصل عنه جناحه الشرقي وحمل اسم بنغلادش. يقتصر البلد الآن على رقعة شاسعة من الأراضي (وهي جميلة فعلاً) حيث تتصارع قوى نافذة مختلفة. تتنافس وسائل الإعلام والجيش والسلطة القضائية والمؤسسة الدينية والأحزاب السياسية كلها على السلطة والنفوذ، بينما يعيش الملايين في حالة من الفقر المدقع.

لكن وسط هذه الفوضى، تبرز قاعدة نفوذ أخرى تعطي بصيصاً من الأمل. تشمل باكستان مجتمعاً مدنياً شاباً وحيوياً، وقد أثبتت بعض فئاته أنها شجاعة ومبدعة وتعددية. يضحي الكثير منهم بوقتهم وطاقتهم ومواردهم بهدف إحداث تغيير حقيقي وهم يستحقون دعمنا.

لا بد من وقوع أحداث عدة في باكستان كي يتحسن الوضع فيها. يجب أن يصبح الجيش تحت سيطرة الحكومة المدنية، ويجب تدمير الجماعات الإرهابية وتفكيكها واستئصال الفساد نهائياً، ويجب أن تتعلّم وسائل الإعلام ضرورة التصرف بشكل مسؤول، ويجب إعادة فرض القانون والنظام في المدن الكبرى وإصلاح نظام التعليم والسماح بترسيخ الديمقراطية.

التغيير سيصل إلى باكستان... لا مفر من ذلك! لكن لن يتحقق الأمر قريباً ولن يكون المسار سهلاً. أتوقع أن يزداد الوضع سوءاً قبل أن يبدأ بالتحسن.

إن التغييرات التي يحتاج إليها البلد هي من النوع الذي يتطلب مرور أجيال عدة، ولا يمكن تحقيق شيء استناداً إلى بعض التعديلات السياسية والهبات الخارجية. لا يمكن استيراد تلك التغييرات بل يجب أن يتعلمها البلد بنفسه بعد خوض التجارب وارتكاب الأخطاء. كذلك، يجب أن تتغير العقلية السائدة في باكستان. باختصار، يحتاج البلد إلى حملة "تعقيم" طويلة وعميقة.

Ghaffar Hussain

back to top