ما تحتاج إليه تركيا: إحياء روح أتاتورك مجدداً!

نشر في 13-06-2013
آخر تحديث 13-06-2013 | 00:01
حذفت تركيا في عهد أتاتورك الأبجدية العربية واستبدلتها بالأحرف اللاتينية، كما ألغت ما تبقى من أحكام الشريعة وتبنت قوانين مستوحاة من سويسرا ومنعت استعمال الطربوش واستبدلته بالقبعة الغربية، وفي نهاية المطاف سُمح بنشوء أحزاب المعارضة.
 ناشيونال بوست ما بدأ على شكل احتجاج بسيط بسبب خطة لبناء مركز تسوق في إسطنبول تحول إلى شعلة من الاضطرابات المنتشرة في أنحاء تركيا، ويبدو أن الوقود الذي يمكن أن يشعل الوضع بدأ يتراكم منذ فترة قد تعود إلى 10 سنوات أو حتى مئة، بحسب طريقة مقاربتنا للوضع. ما تحتاج إليه تركيا الآن هو ما كانت تحتاج إليه دوماً أو ما كانت تتمتع به في الماضي: مراقبة فاعلة لقوى الإسلام الرجعي.

انبثقت تركيا المعاصرة من أنقاض السلطنة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى. ثم ظهر زعيم حيوي وطموح: إنه مصطفى كمال الذي حمل لاحقاً لقب "أتاتورك" الفخري، أي "أب الأتراك". من خلال التشديد على الهوية الوطنية للشعب التركي الذي سكن في قلب الامبراطورية الإسلامية السابقة، تمكن أتاتورك من توحيد المنطقة بعد أن كانت في الأصل مقسمة إلى مناطق احتلال أنشأتها قوات التحالف بعد الحرب، وصولاً إلى تشكيل الدولة التركية القومية.

لم تكن الهوية الوطنية المبدأ الوحيد الذي ارتكز عليه أتاتورك لبناء البلد الجديد. بالنسبة إليه، كانت الحرب كفيلة بإبراز طبيعة المجتمع العثماني المتصلّب والخانق بكل وضوح، فاستنتج أتاتورك أن تركيا تحتاج إلى نسخة متجددة بالكامل من المجتمع الغربي، كان ذلك يعني تطوير مجتمع منفتح، الأهم من ذلك هو التخلص من الدولة الإسلامية وتطبيق إصلاحات ديمقراطية ليبرالية. كذلك، اعتبر أتاتورك أن مسار النجاح في تركيا يجب أن يشتق من الغرب الليبرالي بدل الشرق الإسلامي؛ لذا حذفت تركيا في عهد أتاتورك الأبجدية العربية واستبدلتها بالأحرف اللاتينية. كما أنها ألغت ما تبقى من أحكام الشريعة وتبنت قوانين مستوحاة من سويسرا ومنعت استعمال الطربوش واستبدلته بالقبعة الغربية. سُمح في نهاية المطاف بنشوء أحزاب المعارضة (على الرغم من قمع المحاولات الأولى)، وحصلت النساء على حق الاقتراع وانتخاب البرلمان في منتصف الثلاثينيات.

تبنى خلفاء أتاتورك، بعد وفاته في عام 1938، قضية صون الليبرالية. ربما حصل أكبر إنجاز حققه مناصرو أتاتورك في عام 1950، وفي تلك السنة، واجه حزب مناصري أتاتورك هزيمة كبيرة في الانتخابات فسلّم السلطة سلمياً إلى الديمقراطيين المعارضين، هكذا أصبحت تركيا أول ديمقراطية حقيقية في العالم الإسلامي المعاصر.

لكن الإصلاح في تركيا لم يتحقق بسهولة، فمنذ تأسيس البلد، واجه مناصرو أتاتورك وخلفاؤهم معارضة شرسة من قوى الإسلام الرجعية. في مناسبات عدة بعد تنظيم انتخابات حرة للمرة الأولى، اضطر الجيش التركي، الذي كان متحالفاً مع مناصري أتاتورك الإصلاحيين منذ أيام أتاتورك نفسه، إلى التدخل مباشرةً في شؤون الحكم لمنع الديمقراطية من تدمير الديمقراطية، أي الحفاظ على شعار "شخص واحد، صوت واحد، مرة واحدة".

غداة الانتخابات في عام 1950 مثلاً، حكم الديمقراطيون تركيا طوال 10 سنوات. على مر عقد من الزمن، زادت عدائية الحزب وزعيمه عدنان مندريس للنزعة الليبرالية وباتوا أكثر تأييداً للإسلام. اعتقل مندريس زعيم حزب المعارضة، وفرض رقابة مشددة على الصحافة، وقرر التحول من استعمال اللغة التركية إلى اللغة العربية للدعوة إلى الصلاة في مساجد البلد وقد بدت هذه الخطوة بسيطة للوهلة الأولى، ولكنها سلطت الضوء على ابتعاد الديمقراطيين عن الهوية الوطنية التركية والنزعة العلمانية. خوفاً من العودة إلى الحكم الإسلامي الرجعي، تدخل الجيش في عام 1960.

بعد ذلك، حصلت الانتخابات سريعاً في عام 1961، كإثبات على هامش الحرية في تلك الانتخابات، خسر حزب العدالة الجديد (الذي حل مكان حزب الديمقراطيين المحظور) أمام مناصري أتاتورك بفارق 2% فقط من الأصوات. وقعت انقلابات مماثلة أيضاً بهدف قمع المكائد المناهضة للنزعة الليبرالية في الإدارات التي حملت ميولاً إسلامية في عامي 1971 و1980. وقد أدى انقلاب عام 1980 تحديداً إلى صياغة دستور جديد وتمت المصادقة عليه عبر استفتاء عام، وقد منع "حتى الاتكال الجزئي على المعتقدات الدينية لتحديد الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية التي تطبع نظام الدولة".

أعاد الدستور الجديد إحياء مجلس الأمن القومي المحلي حيث تم تقسيم المقاعد بالتساوي بين أعضاء الحكومة المدنية والقادة العسكريين. كان مجلس الأمن القومي الجديد معدّاً لمنح الجيش وسيلة دائمة ورسمية للتعبير عن مخاوفه أمام الحكومة المنتخبة. كان يأمل أن يسمح المجلس للجيش بالتحقق من تحركات الرجعيين الإسلاميين في الحكومة تزامناً مع تجنب التدخل المباشر. نجح هذا النظام طوال 20 سنة. لم تحصل انقلابات إضافية لكن تمكن الجيش من مراقبة سلوكيات رؤساء الحكومة الذين يميلون إلى تأييد الإسلام المتشدد.

لكن سرعان ما اختل هذا التوازن منذ عام 2000. في عام 2003، وصل رئيس الوزراء الراهن رجب طيب أردوغان إلى السلطة. ينحدر حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه أردوغان مباشرةً من أحزاب الديمقراطية والعدالة الإسلامية الرجعية. تمكن الجيش في البداية من كبح ميول أردوغان الرجعية، لكن كان ذلك النجاح قصير الأمد نسبياً، ففي فترة وصول أردوغان إلى السلطة، كانت المفاوضات المرتبطة بانتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في أوجها. برزت بعض الشروط لاستمرار تلك المحادثات، فطالبت كبار الشخصيات في بروكسل بخضوع الجيش التركي للسلطات المدنية. رضخ البرلمان الذي سيطر عليه حزب العدالة والتنمية لذلك المطلب بكل سرور وأضعف دور مجلس الأمن القومي وجعل معظم أعضائه من المدنيين. في عام 2009، مرر البرلمان قانوناً يمنح المحاكم المدنية صلاحية معاقبة العسكريين إذا هددوا الأمن القومي. حصلت تغييرات مماثلة أخرى بهدف تعزيز فرص تركيا للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وكانت كفيلة بتقليص نفوذ الجيش.

كانت هذه الخطوات كلها لتُعتبر جديرة بالثناء، وحتى أساسية، في معظم الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، لكن في تركيا، لا يُعتبر الإجماع الليبرالي الديمقراطي واسعاً كما هو في كندا أو الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. صحيح أن الانقلابات العسكرية تُعتبر (عن وجه حق) بمنزلة لعنة في الديمقراطية الليبرالية، لكن في تركيا لطالما كان التدخل العسكري، أو على الأقل التهديد بإطلاق تدخل مماثل، رادعاً فاعلاً في وجه قوى الإسلام الرجعية. أدى تراجع نفوذ الجيش في العقد الماضي إلى منح القوى الرجعية مساحة أكبر من الحرية. هذا ما يفسر الضوابط الأخيرة على استهلاك الكحول، ومنع التقبيل في الأماكن العامة في أنقرة، فضلاً عن فرض قيود أخرى على الحريات الشخصية. لا تزال الضوابط التي تقمع الحرية ضئيلة نسبياً حتى الآن، لكن يخشى البعض أن يستمر الابتعاد التدريجي والثابت عن الانفتاح الاجتماعي.

تحتاج تركيا إلى ما يحتاج إليه كل مجتمع ليبرالي: حكومة ديمقراطية ترتكز على مؤسسات قوية بما يكفي لمراقبة تعدّيات الحكومة على الحريات. في الماضي كان الجيش التركي، رغم شوائبه، يمثل هذا النوع من المؤسسات، فساهم ضعف مكانة الجيش راهناً في زيادة جرأة أردوغان وأعوانه. لذا لا بد من كبح سلوكياتهم. لنأمل أن نشهد اليوم تجدد روح أتاتورك في تركيا. إذا أصبحت الانقلابات العسكرية في تركيا جزءاً من الماضي، لنأمل أن تكون الاحتجاجات الراهنة انقلاباً أيديولوجياً تطلقه أقلية ملتزمة بالحرية الشخصية.

Emmett Robinson

back to top