هل هناك ديمقراطية في العالم العربي؟

نشر في 17-06-2013
آخر تحديث 17-06-2013 | 00:01
 سامي محروم في كتابه "الديمقراطية في أميركا"، يقول أليكيس دو توكفيل إن ثقة الشعب تخفف الضغوط المفروضة على الدولة، وتسمح لها بالعمل بقدر أعظم من الفعالية، وينبغي لهذا أن يمد الحكومات في العالم العربي ببعض الارتياح، حيث أظهر استطلاع أجري في عام 2012 بين الشباب أن 72% من المستجيبين يعربون عن قدر أكبر من الثقة في حكوماتهم، ولكن كيف نفسر إذن الاضطرابات الاجتماعية المتواصلة والشلل الحكومي في دول الربيع العربي؟ تزودنا نسخة أحدث من الاستطلاع ببعض المفاتيح لحل هذا اللغز. إن أغلبية كبيرة من الشباب العرب، نحو 70%، يقولون إن الأهل، والعائلة، والدين هم الأكثر تأثيراً على منظورهم للحياة، فيما يصرح نحو ثلثهم فقط بأن مجموعات النخبة- الكتاب، وكبار رجال الأعمال، وقادة المجتمعات المحلية، ووسائل الإعلام- لها أي تأثير على نظرتهم للحياة. في حين أن 16% فقط منهم ذكروا أن نجوم الغناء الشعبيين خلفوا تأثيراً على آفاقهم.

تزودنا هذه الأرقام ببعض الملامح المفيدة للنسيج الاجتماعي الناشئ في المجتمعات العربية، ففي العادة، يكون الناس أكثر استعداداً للتأثر بأولئك الذين يثقون بهم ويتمنون محاكاتهم. وحقيقة أن أغلبية كبيرة من العرب يتحولون باتجاه الأسرة والدين لها مدلولاتها.

إن المجتمعات العربية، خصوصاً تلك التي تعيش حالة من الاضطراب، ترتد إلى ما أطلق عليه إميل دوركايم، وهو منظر اجتماعي فرنسي آخر، وصف "التضامن الميكانيكي". وهو نوع من التضامن الاجتماعي الذي ينشأ على طول خطوط القرابة والدين، ويرتكز على شعور بالانتماء إلى نفس المجموعة "المتجانسة". ويقارن دوركايم بين هذه الظاهرة و"التضامن العضوي" الأكثر تقدمية والذي ينشأ في المجتمعات الحديثة وفقاً لعلاقات الناس المهنية والوظيفية.

وفي أوقات المخاطر الشديدة، سواء كانت حقيقية أو متوهمة، يبدأ الناس بتنظيم أنفسهم بشكل متزايد على أساس هويات متجانسة. ونتيجة لهذا فإن "التضامن الميكانيكي" يزداد قوة على حساب "التضامن العضوي". وكثيراً ما يتسارع هذا الاتجاه بسبب فقدان المرء لوظيفته التي يتعيش منها، وهو ما يدفع الناس عادة إلى التخلي عن هوياتهم المهنية والوظيفية لمصلحة هويات قائمة على العرقية، أو القرابة، أو الدين.

في المجتمعات المتنوعة ثقافياً، مثل العراق ولبنان، تستند شبكات التضامن الاجتماعي بشكل شبه كامل إلى التقارب الديني والعرقي. وفي المجتمعات الأكثر تجانساً، مثل ليبيا، يميل التضامن الاجتماعي إلى اتباع خطوط قَبَلية وحزبية. وفي تونس أيضاً، كان هناك ارتداد مماثل إلى أنماط ميكانيكية من التضامن نشأت حول هويات قَبَلية، وإقليمية، ودينية.

ولعل أحد التجليات الأكثر درامية للنمط الميكانيكي من التضامن هو ما يتجلى الآن في سورية، ففي حين يواجه أهل سورية الموت، والعنف، والتشريد لأكثر من عامين، لا يزال المجتمع الدولي مشغولاً بمناقشة طبيعة المتمردين في سورية. وبدأ المجتمع السوري، الذي تُرِك لمصيره، يتفكك اجتماعياً ثم يعيد تنظيم نفسه على أسس طائفية، ومع اشتداد حدة الصراع، بدأت الهويات التي كانت راسخة وقائمة على الهوية المهنية تختفي، لتفسح المجال أمام أشكال التضامن الأسري والمناطقي والديني.

فمنظمات المجتمع المدني والمجموعات المهنية كانت عاجزة عن الاستجابة بطريقة تحفظ للمجتمع تماسكه العضوي، بسبب افتقارها إلى الموارد، وضعف قدراتها، أو كلا الأمرين. ونشأ التضامن الميكانيكي كوسيلة أكثر فعالية لتعبئة الناس والموارد.

وفي صلب الأزمة يكمن عنصر قوي آخر، وهو اللامبالاة، فعلى سبيل المثال، كان دور الطبقة المتوسطة في العالم العربي خافتاً بشكل ملحوظ في الجهود المبذولة لدعم اللاجئين السوريين. وقد أكدت الزيارات التي قامت بها الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي إلى معسكرات اللاجئين السوريين في الأردن وتركيا، والتي حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، الغياب شبه الكامل لحملات التوعية المماثلة من المشاهير العرب.

ففي حين يجلس الملايين من العرب أسبوعياً لمشاهدة المغنين المفضلين لديهم والتصويت لهم في النسخة العربية من "ذا فويس" و"أراب آيدول"، لم يتم بعد تنظيم حملة واحدة لجمع الأموال لمصلحة اللاجئين السوريين على المحطات الناقلة لهذه البرامج. وعلى النقيض من هذا، كانت القنوات التلفزيونية ذات الانتماءات الدينية والطائفية شديدة النشاط، بما في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعية، في جهود جمع الأموال. فلعله ليس من المستغرب إذن ألا يرى أغلب الشباب العرب قدوة خارج دوائرهم الاجتماعية المغلقة.

باختصار، تعاني الدول العربية نزيف رأسمالها الاجتماعي، وهو ما من شأنه أن يعرقل التعافي الاقتصادي وجهود بناء الدولة بشكل ملحوظ. أو كما قال في عام 1972 كينيث أرو، رجل الاقتصاد الحائز جائزة نوبل، إن "الكثير من التخلف الاقتصادي في العالم يمكن تفسيره بالافتقار إلى الثقة المتبادلة". وعلى هذه الخلفية، فإن خطة تثبيت الاستقرار العربي التي أعلنها أخيراً، وهي مبادرة للقطاع الخاص يقودها عرب وتهدف إلى خلق عشرات الآلاف من فرص العمل من خلال الاستثمار على نطاق واسع في مشاريع البنية الأساسية، هي على وجه التحديد النمط المطلوب من التحرك من أجل الحفاظ على التماسك الاجتماعي. والواقع أن الجهود الدولية بقيادة البنك الدولي وغيره من الجهات الدولية المانحة، كانت تميل إلى التركيز على تعزيز العلاقات بين الدولة ومواطنيها من أجل تحقيق المكاسب التي تحدث عنها دو توكفيل- الديمقراطية العاملة، والحكومة الفعّالة. ولكن المطلوب على وجه السرعة الآن هو التركيز القوي على توفير فرص العمل والحفاظ على التضامن العضوي وتعزيزه.

* المدير الأكاديمي لمبادرة الإبداع والسياسة في المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (INSEAD).

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top