مملكة الضحك (13): ماري منيب... قمّة النجاح تنتهي بالدخول في دوامة الأحزان

نشر في 28-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 28-08-2011 | 22:02
شعرت ماري منيب بأن السماء تعوّضها عما فات من حياتها، على المستويين الإنساني والفني، فلم ترَ سعادة في حياتها كالتي تعيشها هذه الأيام مع زوجها فهمي عبد السلام، وأولادها الأربعة، كذلك أصبح اسمها كفنانة يناطح أسماء كبار الفنانين، في المسرح والسينما، بل والإذاعة التي أرادت أن تنهل من معين هذه الممثلة المتمكّنة الذي لا ينضب، فراحت تستعين بها في تقديم أعمال درامية إذاعية، بل وفواصل كوميدية تتحدّث فيها مباشرة إلى الجمهور، فضلاً عن أفلام كثيرة قدّمتها خلال عامَي 1943 و 1944، حتى إن أجرها أصبح يوازي أجر أبطال أفلامها، وهذا ما لم يتوافر لنجوم الصف الثاني من كبار الفنانين.

كان 1945 عام ماري منيب السينمائي، إذ قدّمت فيه سبعة أفلام مثّلت تقريباً ربع إجمالي ما قدّمته السينما المصرية في ذلك العام، فشاركت في أفلام: «ليلة حظ، تاكسي حنطور، رجاء، ليلة الجمعة، الجنس اللطيف، ليلى بنت الفقراء، وأول الشهر»، ولاقت جميعها نجاحاً كبيراً، وكانت ماري منيب إضافة حقيقية الى هذه الأفلام، فمهما كان اسم البطل أو البطلة يحمل من نجومية، لم يكن مشاهد واحد لينسى دور ماري فيها.

على رغم حرصها الشديد على احترام النص المكتوب في سيناريوهات الأفلام، أو حتى الروايات المسرحية، إلا أن ماري كان لا بد من أن تضع بصمتها على كل دور تقدّمه، بأن تصبغ كل شخصية تجسّدها بـ «لزمة» طريفة من مخزونها الإنساني، سواء من خلال جملة حوارية أو حكمة تأتي على لسانها من أجواء الشخصية وموضوع العمل، أو حتى مثل شعبي، وإذا لم يكن ذلك متاحاً تلجأ إلى توظيف قطع أكسسوارات الشخصية سواء في الملابس أو الحلي، بحيث تقوم بما يمكن أن يطلق عليه البعض «سرقة الكاميرا»، غير أنها لم تكن تتعمّد هذه الأمور مع زملائها، بل تأتي بشكل تلقائي، فتقدّمها بطريقة لا يمكن أن تتكرّر من فيلم الى آخر، فقد كانت تحرص ـ على رغم طريقة كلامها الواحدة والثابتة ـ على ألا تكرّر الشخصية نفسها في كل عمل يُسند إليها.

هذا النجاح غير العادي أثار انتباه «أبو الكشاكش»، فقرّر تتويج نجاح ماري السينمائي بجعل

الـ 1945 عامها المسرحي أيضاً، إذ عرض عليها أن تقاسمه للمرة الأولى، بطولة مسرحيّته الجديدة التي سيقدّمها للموسم الصيفي آنذاك، وهكذا كان.

«إلا خمسة»

عندما شارك نجيب الريحاني بديع خيري كتابة مسرحية «إلا خمسة»، كانت ماري منيب تقفز إلى ذهنه، فكان يضحك حتى يتوقّف عن الكتابة:

* أول مرة أشوفك بتضحك يا نجيب وإنت بتكتب... قد كده الراوية كوميدية؟

-طبعا تجنّن... وإنت تكتب حاجة وحشة يا بديع؟

* لا مش القصد... بش شايفك منفعل قوي في الكتابة وبتضحك؟

-أصل البنت ماري دي عاملة دور ما حصلش؟

* (مندهشا)... ماري مين... مفيش بنت في الرواية اسمها ماري؟

-لا يا أخي... أنا أقصد «الحيزبون التركية» أخت الباشا... مش عارف ليه كل ما أكتب جملة حوار أشوف ماري منيب هي اللي بتنطقها، خصوصا الجملة اللي بتقعد تكررها لسليمان لما بيروح يشتغل عندهم سواق وتسأله كل شوية: «إنتي جاية تشتغلي إيه».

* أفهم من كده إنك اخترت ماري للدور ده خلاص؟

-أنا ما اخترتش... الشخصية هي اللي اختارت صاحبتها... شايفها قدامي بتتنطط ع الورق.

* بس ماري مش صغيرة على الشخصية دي؟

-وأنا مالي... ما الشخصية هي اللي اختارت... وبعدين ماري دي بنت عفاريت.. تعمل أي حاجة في الدنيا.

* أنا ملاحظ يا نجيب إنك في السنين الأخيرة مهتم شوية بماري.

-شوف يا بديع... مفيش كاتب ولا مخرج ولا صاحب فرقة ممكن يهتم بفنان بمزاجة كده من الباب للطاق... إلا إذا أجبره الفنان ده على الاهتمام بيه... بالظبط زي المدرس في الفصل مش ممكن يهتم بتلميذ بعينه إلا إذا كان التلميذ ده نبيه وأجبر الأستاذ على كده.

* فينك يا ماري تيجي تسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه ولا هتسمعيه من أبو الكشاكش؟

-لا بجد... ماري موهوبة جدا... وهيبقالها شأن كبير.

* أكبر من كده... دي بقت نجمة يا سيدي وخايفين منعرفش نكلمها بعد كده.

لم يتردّد الريحاني لحظة في أن يسند دور السيدة التركية العجوز المتصابية الى ماري منيب، فهو يراها الآن أصبحت أكثر خبرة وحضوراً على خشبة  المسرح وما من أحد غيرها أنسب لهذا الدور.

رسم خيري والريحاني شخصية الهانم العجوز بدقّة أذهلت ماري نفسها، لدرجة أنها بمجرد ظهورها من شباك صغير على خشبة المسرح حتى كان الجمهور يضجّ بالضحك، فصدق حدس نجيب الريحاني، إذ كانت إلى جانبه سبباً في نجاح المسرحية التي استمرّت وللمرة الأولى في المسرح المصري ثلاثة أشهر كاملة، من دون تغيير وهذا يعدّ حدثاً مسرحياّ غير مسبوق في ذلك الوقت، حيث كانت كل الفرق المسرحية، كبيرة أو صغيرة، تتراوح مدة عرضها للرواية الواحدة مهما بلغ نجاحها، بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع.

في عام 1945، كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها الثقيلة على العالم عموماً، وعلى المجتمع المصري خصوصاً، فانعكس ذلك على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ زادت الأسعار بشكل مبالغ فيه، وبالتالي قلّ إقبال الناس على المسرح، خصوصاً بسبب الغارات وأجواء الحرب التي فُرضت على مصر رغماً عنها، ذلك لمشاركة الإنكليز فيها كضلع أساسي، وتواتر المعلومات التي تفيد بوصول هتلر إلى منطقة العلمين في الساحل الشمالي الغربي لمصر، وأنه سيفعل باليهود المصريين مثلما فعل بيهود ألمانيا وأوروبا.

ذكاء الريحاني

ربما أهم ما كان يميّز الريحاني وجعله يستمرّ حتى في ظل هذه الأجواء، ذكاؤه الشديد وسرعة بديهته وتفاعله مع الأحداث، وتطوير نفسه وفنّه بشكل دائم، فقدّم للمسرح عملاً أكّد من خلاله أن وحدة المصريين لا يفرّقها دين، وأنه على أرض مصر لا فرق بين يهودي أو مسيحي أو مسلم، طالما كانوا كلّهم مصريين. كان هذا العمل المسرحي بعنوان «حسن ومرقص وكوهين»، الذي يدور حول ثلاثة مصريين تجمعهم شراكة في تجارة واحدة، ويتعاملون على اعتبار أنهم شخص واحد.

فكّر الريحاني في تقديم الرواية نفسها للسينما، للأسباب نفسها، لكنه أرجأ الفكرة إلى وقت لاحق، على اعتبار أنها لا تزال تُعرض في المسرح، فقرّر الاستعانة بإحدى الروايات السابقة في مسرحه وتقديمها للسينما ليكون مواكباً للأحداث.

كان الريحاني يشعر بأن عمره قصير، لذا كان يريد أن يعطي كل دقيقة من حياته لفّنه، وعلى رغم حزنه على تراثه المسرحي الذي لم يخلد، وجد بديلاً مهماً في السينما ليسجّل جزءاً من هذا التاريخ، فهو وإن كان لم يحب السينما كما عشق المسرح، إلا أنه لجأ إليها من حين الى آخر ليخلّد بعضاً من تراثه، فقرّر وبديع خيري أن يعيدا كتابة أشهر المسرحيات التي نجحت معهما وتقديمها للسينما.

* فاكره «لعبة الست» يا ماري؟

-إلا فاكره... وهي دي رواية تتنسي... يا سلام يا سي نجيب... ده أنا من كتر حبي فيها حافظاها مشهد مشهد.

* إيه رأيك نعملها تاني؟

-ياريت.. دي كانت تكسر الدنيا ويمكن كمان تبقى أحسن من «إلا خمسة»... بس هتعملها بقى لموسم الصيف ولا العيد؟

* لا صيف ولا شتا... إحنا هنعملها للسينما.

-والله فكرة برضه... تسلم أفكارك يا أبو الكشاكش.

* أيوه... أفكار أبو الكشاكش اللى هتروح بلاش.

-يوه... كفى الله الشر... ليه بتقول كده؟

* أبداً... أهو كلام ما تخديش في بالك... عارفة يا ماري... أنا نفسي أعيد كل الروايات اللي عملناها في المسرح ونقدمها للسينما... رغم تقل دم السينما وشغلها المقرف... لكنها سحر بنت الإيه... ما هو لازم الناس اللي هييجو بعدنا يشوفوا إحنا عملنا إيه بعد ما نموت... أمال هيحكموا علينا بالسمع بس.

-ربنا يديلك طولة العمر يا سي نجيب وتملا الدنيا كلها شغل وفن.

* أي والله إحنا محتاجين الدعوتين دول... المهم خلينا في الشغل... شوفي بقى، أنا عاوز قرف الحماوات اللي في الدنيا دي كلها تحطّيه في شخصية «سنية جنح».

أدى الريحاني دور «حسن وابور الجاز» وأسند الى ماري منيب دور «سنية جنح» في فيلم «لعبة الست» الذي قدّمه في عام 1946، وشاركته البطولة الراقصة تحية كاريوكا في دور «لعبة» ابنة سنية جنح، وعبد الفتاح القصري بدور والدها «إبراهيم نفخو»، ومعهما عزيز عثمان ممثلاً ومطرباً في دور «محمود بلاليكا»، وبشارة واكيم في دور «الخطيب الشامي»، ثم اختار سليمان بك نجيب ليؤدي دور اليهودي المصري طيّب القلب الذي يقرّر الهرب إلى جنوب أفريقيا خوفاً من وصول الألمان إلى العلمين، فيضطر الى بيع محلّه لمستخدمه المسلم «حسن».

ظلّت أصداء نجاح هذا الفيلم تطارد ماري منيب فترة طويلة، في الشارع وفوق خشبة المسرح، وكان الجمهور يناديها في أي مكان باسم «سنية جنح»، وعلى رغم استمرارها في المسرح مع الريحاني، إلا أنها كان تشتاق دائماً الى العمل معه في السينما، لأنها تعرف قيمة أن تقدّم ولو فيلماً واحداً في السنة، بشرط أن يكون مع الريحاني، إلا أن الأخير لم يكن ليقبل كلّ ما يُعرض عليه، فيحاول قدر الإمكان التنوّع في ما يختار خوفاً من الهاجس الذي سيطر عليه دائماً: ماذا ستقول عنا الأجيال القادمة؟

رحيل الذكريات

كانت ماري منيب تستشعر أن الريحاني يستعدّ لعمل سينمائي ضخم، سيكون الفيصل في حياته وحياة مَن سيعملون معه فيه، فقرّرت أن تنتظر هذا الفيلم، ووجدت نفسها ترفض عشرات الأعمال التي تُعرض عليها بسبب هذا الفيلم المجهول، غير أن انتظارها طال فقرّرت أن تقبل ما يُعرض عليها في السينما لحين عثور الريحاني على ضالته، فقدّمت في أبريل 1947 مع المخرج محمد عبد الجواد فيلم «المتشردة» وشاركها البطولة المطرب عبد العزيز محمود وحكمت فهمي وحسن البارودي. وفي العام نفسه، قدّمت: «بياعة اليانصيب، النفخة الكدابة، البريمو، حمامة السلام، وبنت المعلم»، وفي العام التالي قدّمت فيلم «ابن الفلاح» من تأليف بديع خيري وإخراج عبد الفتاح حسن، وبطولة المطرب محمد الكحلاوي والممثل اللبناني محمود نصر، وشرفنطح، ونبوية مصطفى.

كعادتها، وقّعت ماري عقود أكثر من فيلم ارتبطت بها في عام 1948، بدأتها بـ «ابن الفلاح»، ولولا هذه العقود والارتباطات لاعتذرت عن بقية الأفلام المعروضة عليها، فقد شهد منتصف ذلك العام رحيل الحبيب الأول والزوج الأول في حياتها، والبطل الأول أمامها، ووالد ابنيها... رحل فوزي منيب فجأة بعدما تراجعت أسهمه كفنان، وتوارى خلف طابور طويل من النجوم والممثلين بدأوا بعده وتقدّموه كثيراً.

بكت ماري فوزي كثيراً، فلا يزال قلبها ـ على رغم كل ما حدث ـ يحمل الكثير من الذكريات الجميلة واللحظات السعيدة التي باتت رغماً عنها جزءاً من  تاريخها، فلم يكن فوزي مجرد رجل عابر في حياتها، بل تعلّمت منه الكثير، إنسانياً وفنياً، وترك مكاناً كبيراً في حياتها، شاءت أم أبت، ترك لها فؤاد وبديع فوزي منيب، اللذين أصبحا رجلين مسؤولين بعد أن تزوّجا فور زواج ابنَي خالتهما، فقررا إقامة سرداق كبير لوالدهما، غير أن عزاءهما كان وجود أب آخر لهما هو زوج أمّهما فهمي عبد السلام، الذي قدّر هذا الوفاء والإخلاص من ماري لرجل يدرك تماماً أن له عظيم الأثر في حياتها بدليل أنها لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.

اضطرت ماري الى التغلّب على أحزانها لتفي بارتباطاتها الفنية، فقدّمت فيلمَي «المليونيرة الصغيرة»، و»فوق السحاب». ثم أنهت العام 1948 بفيلم «المجنونة» أمام ليلى مراد ومحمد فوزي والسيد بدير، ومن تأليف حلمي رفلة وإخراجه.

في ليلة عرض «المجنونة» في 31 يناير 1949، عرفت ماري من ليلى مراد أن زوجها أنور وجدي يستعدّ لتصوير عمل ضخم يحضّر له منذ فترة بعنوان «غزل البنات»، وأن وجدي سيشحذ له كبار النجوم والممثلين، على رأسهم نجيب الريحاني ويوسف بك وهبي والمطرب والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وسليمان بك نجيب وعبد الوارث عسر، ومعهم فردوس محمد التي ستقدّم دور مربية ليلى.

شعرت ماري بالغيرة، فقد كانت تنتظر هذا الفيلم وإذا بالريحاني يعطي دورها لفردوس محمد. ارتأت أنه لا بد من أن تتحدّث معه في هذا الأمر، فربما كان لها دور ولم يخبرها بعد، وحتى لو لم يكن لها دور فهو قادر على أن يخلق لها دوراً:

* ما كنش العشم يا أستاذ نجيب... بقى مستنية كل ده على أمل إني اشتغل معاك في الفيلم وبعدين ألاقي الدور يروح لفردوس محمد... هي فردوس أغلى منيّ عندك؟!

-بس بس... فيه إيه... فيلم إيه وفردوس محمد مين... أنا مش فاهم حاجة إنت بتتكلمي عن إيه بالظبط؟

* عن غزل البنات اللي هتعملوا مع أنور وليلى.

-أيوه أيوه فهمت... وانت إيه اللي مزعلك كده.

* كنت عاوزه أشتغل معاك في الفيلم... وأديك شفت نجاح سي عمر ولعبة الست وأبو حلموس، و...

-أيوه فاهم... بس اللي إنت مش فاهماه إن الفيلم مش بتاعي... ده ياستي أنور وجدي شايل الليلة كلها على بعضها... إنتاج وتأليف وإخراج وتمثيل، واد جن مصور عاوز يعمل كل حاجة في الدنيا... وإنت عارفه إننا مستغناش عنك واتمنى تبقي معايا في كل شغل أعمله... لكن نعمل إيه ما باليد حيلة.

* بس أنا كنت عاوزة أشتغل معاك في الفيلم ده بالذات حتى لو أعدي من قدام الكاميرا.

-يا ستي الله يجبر بخاطرك... بس اشمعنى الفيلم ده بالذات... ما الأفلام كتير.

* معرفش... وكمان ليلى قالتلي أنه هيبقى معاكم يوسف بيه وهبي وسي محمد بيه عبد الوهاب وسليمان بيه نجيب، و...

-أيوه أيوه... الفيلم كله بهوات... مفيش فيه أفندي غيري.

بس تعرفي حاسس إن الواد أنور لاممنا كلنا في الفيلم زي ما يكون بيكرمنا... أو بيدينا مكافأة نهاية الخدمة... بيقول دول خلاص بقى رايحين... لكن اللي زيك لسه جاي وبيبدأ.

* أيوه يا خويا... كُل بعقلي حلاوة زي عوايدك.

لم تعرف ماري منيب سرّ هذا الإصرار العجيب منها على مشاركة الريحاني فيلم «غزل البنات» تحديداً، فهي لم تفعل ذلك معه سابقاً، فهل لأنها تعوّدت على العمل معه وتريد مشاركته كل أعماله؟ أو لأن الفيلم مهمّ وضخم توافرت له كل إمكانات النجاح؟ أو لأنه ستشارك فيه صفوة النجوم الموجودين على الساحة آنذاك؟

دوامة الأحزان

لم تعرف ماري الإجابة عن هذا السؤال إلا يوم عرض «غزل البنات»، فقد حضر عرضه الأول كلّ من شارك فيه إلا نجيب الريحاني الذي كان قد رحل عن هذه الدنيا.

كانت صدمة قاسية ومروّعة لماري، فلم تصدّق أن الريحاني قد مات... فبعد أشهر قليلة من رحيل فوزي منيب، الرجل الأول في حياتها، غيّب الموت الريحاني الذي جعلها تشعر بنفسها وفنّها وبقيمة ما تقدّمه، الرجل الذي علمها الكثير من دون أن تطلب ذلك، رسم لها ملامحها الفنية ووضع الأطر الخارجية لكل الشخصيات التي قدّمتها معه، وبقيت معها تلازمها حتى عندما كانت تضطرها الظروف الى التحليق خارج فضائه.

رحل الريحاني قبل أن يكمل تصوير الفيلم فاضطر أنور وجدي الى إجراء تعديلات في السيناريو.

انقطعت ماري عن المسرح والسينما وعن كل ما له علاقة بالفن، وانطوت على أحزانها تجترّ ذكرياتها، وفشلت كل محاولات المقربين لإخراجها من هذه العزلة الاختيارية، لدرجة أنهم أخفوا عنها خبراً آخر سيزيد آلامها وأحزانها، غير أنها قرأته في عيونهم، فقد أبى عام 1949 أن يرحل قبل أن يأخذ معه رفيقاً آخر في الدرب، وهو الفنان بشارة واكيم، ليكتمل عام الحزن لدى ماري، ففي أقلّ من عامين غيّب الموت ثلاثة من حياتها، كان لهم عظيم الأثر عليها كإنسانة وكفنانة.

كاد الحزن أن يقتل ماري بعدما حاصرها من كل جانب... وتحوّلت المرأة التي تملأ الدنيا بهجة وضحكاً وتفاؤلاً، حتى في أحلك الظروف، إلى كتلة من الأحزان مستسلمة تماماً... غير أنها مؤمنة بقضاء الله وراضية بضربات القدر.

البقية في الحلقة المقبلة

back to top