الحرب الباردة الجديدة... والحاجة إلى محور خليجي - باكستاني - صيني

نشر في 23-06-2011
آخر تحديث 23-06-2011 | 00:01
No Image Caption
 نايف بندر اللافي قامت باكستان خلال شهر مايو الماضي باتخاذ أهم قرار يمس أمنها القومي وسياساتها الخارجية، ربما في العشرين سنة الماضية، فقد خرجت من حلفها الشكلي مع الولايات المتحدة الأميركية إلى حلف حقيقي ومعلن مع الصين.

فخلال زيارة رئيس الوزراء الباكستاني إلى الصين في منتصف شهر مايو الماضي تم الاتفاق على أن تزود الصين باكستان بخمسين طائرة حربية طراز "جي إف-17" دون مقابل ودراسة التزود بطائرات حربية مقاتلة خفيفة أخرى، بالإضافة إلى تزويد باكستان بفرقاطات بحرية متوسطة الحجم قادرة على حمل صواريخ متعددة الاستعمالات، وبناء قاعدة عسكرية بحرية في جنوب باكستان، كما عرضت باكستان تقديم خدمات لوجستية وبحرية وصيانة للقوة البحرية الصينية؛ مما يعني فعليا إيجاد قاعدة بحرية صينية في جنوب باكستان، كما تشمل الاتفاقية رفع درجة كفاءة أجهزة الرادار الباكستانية التي عطلتها أميركا خلال الغارة على مقر بن لادن، وتقديم المساعدة في مجالات الطاقة النووية والتعاون الاقتصادي في مناطق حرة تجارية على حدود البلدين.

الجانب العسكري فقط من هذا الاتفاق يعني أن باكستان في حلف عسكري مع الصين، وأصبحت محمية صينية، يؤكد هذا قيام الصين بإطلاق تحذير شديد اللهجة إلى الولايات المتحدة الأميركية بأن أي اعتداء على باكستان هو اعتداء على الصين.

هذا التحذير في رأيي سيدخل التاريخ على أنه بداية الحرب العالمية الباردة الجديدة بين القوى العظمى في العالم، وقد أعلن الرئيس الروسي ميدفيدف صراحة في تصريح صحافي بعد أقل من عشرة أيام على التحذير الصيني أن وعود أميركا بإعادة تصحيح العلاقات مع روسيا لم ينتج عنها شيء، وأننا يبدو سنعود إلى حرب باردة جديدة.

هذه الحرب الباردة تختلف عن سابقتها، فهي ليست بين معسكر شر ومعسكر خير، حسب أي طرف كنت تميل إليه، وهي ليست بين أنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة كليا: نظام تملك الحكومة فيه كل شيء وتمنع الحريات الأساسية للشعوب (كما في روسيا الشيوعية) ونظام ليبرالي حر. هذه الحرب الباردة الجديدة هي بين طرفين رأسماليين يتنافسان بنفس الأساليب، ويسعيان إلى حصة أكبر من السوق العالمي، فهي أقرب ما تكون إلى منافسة بين شركات كبرى كالتنافس بين "مايكروسوفت" و"أبل" في السابق أو بين "موتورولا" و"سوني أريكسون"، إلا أننا هنا نجد الدول العظمى بقدر ما تتنافس وتخوض حربا باردة فهي تتعاون اقتصاديا بل تحتاج بعضها إلى بعض اقتصاديا.

هناك آراء عدة حول السبب في اتخاذ باكستان هذا القرار، وأكثر ما يسوق له في أجهزة الإعلام الغربية هو العملية المزعومة لقتل بن لادن في مدينة "أبوت أباد" الباكستانية، قرب أهم قواعد الجيش الباكستاني ودون إخبار السلطات الباكستانية، إلا أن قراراً بأهمية ما حصل لا يمكن أن يتم إلا إذا استشعرت باكستان خطرا على أمنها القومي من أميركا يدفعها باتجاه الصين.

تتلخص الأسباب في اعتقادي في قسمين: خارجي وداخلي، أما الخارجي فنعلم العلاقة الاستراتيجية لباكستان بطالبان وأفغانستان واعتبارها أن أفغانستان عمق استراتيجي لها في مواجهة الخطر الهندي، وقد عانت باكستان بسبب الحرب الأميركية على أفغانستان و"طالبان" بالذات، ورفضت بشتى الطرق ضغوط أميركا لقطع علاقاتها مع "طالبان"، إذ ظلت المخابرات الباكستانية على علاقة وثيقة جدا معها، بل إن باكستان ما كانت لترضى بمساعدة أميركا على غزو افغانستان لولا تهديد أميركا الصريح لها.

فقد قال الرئيس الباكستاني برويز مشرف في مقابلة صحافية مع مجلة أميركية إن نائب وزير الخارجية الأميركي أرميتاج اتصل برئيس المخابرات الباكستانية في شهر ديسمبر 2001 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهدده إذا لم تتعاون باكستان مع أميركا في غزو أفغانستان فستقوم أميركا بقصف باكستان "وإرجاعها إلى العصر الحجري".

إلا أن التغيير الأخير في السياسة الأميركية بشأن "طالبان" وضغطها على مجلس الأمن لرفع العقوبات عن أكبر عشرين شخصا من قادة "طالبان" بمن فيهم "الملا عمر"؟! ضمن صفقة لإعادة تأهيل "طالبان" وإدخالها ضمن العملية السياسية في أفغانستان أو ربما إرجاع "طالبان" إلى سدة الحكم، ولكن بشروط أميركية وبمعزل عن تأثير باكستان، قد دقت ناقوس الخطر الباكستاني.

الخطر الداخلي المعلن يتمثل باستمرار أميركا بعمليات القصف العشوائي، بدعوى مطاردة عناصر "القاعدة" وما يترتب عليها من قتل للمدنيين على الحدود الباكستانية الأفغانية، ولا يخفى أن النسيج الاجتماعي والاقتصادي في باكستان هش للغاية والحدود الباكستانية الأفغانية توجد فيها أغلبية بشتونية وهي أكبر قبيلة في أفغانستان، وأشد ما تخشاه باكستان هو انهيار الجبهة الداخلية وحدوث اضطرابات وقلاقل تؤدي إلى إعلان دولة "بشتونستان" على جزء من باكستان وجزء من أفغانستان مما يجعل محاولات باكستان أو ما يبقى منها في مواجهة الخطر الهندي لا تتوقف في استمالة أفغانستان اقتصاديا واستخباراتيا.

الخطر الداخلي غير المعلن يتمثل بالكم الهائل من رجال المخابرات الأميركية والمقاولين التابعين كأفراد شركة "بلاك ووتر" ممن يخوضون حربا مخابراتية داخل الأراضي الباكستانية تزيد من هياج الشارع الباكستاني يوما بعد يوم، وتزعزع ثقته بحكومته، وتعطينا حادثة الأميركي ريموند ديفيز دليلا على ما يدور في شوارع باكستان. ففي يوم السابع والعشرين من يناير الماضي، تسبب ديفيز "الخبير الفني" في القنصلية الأميركية في لاهور، بغضب شعبي عارم حين أقدم، وفي وضح النهار، على قتل شابين من قادة الدراجات النارية بعد مطاردتهما، حيث بدأ بإطلاق خمس طلقات من خلال نافذة سيارته الأمامية، أصابت أربع منها الشخصين ما يدل على حرفية عالية.

ثم خرج من السيارة وسار باتجاه الشابين المصابين وأجهز عليهما بأربع طلقات أخرى، ثم وبأعصاب باردة أخذ يلتقط صورا لهما بهاتفه النقال بعد أن اتصل بالقنصلية لإرسال الإسناد، في هذه الأثناء وبسبب تجمع الناس حوله أصابه الفزع وسارع بالفرار بسيارته لتقبض عليه الشرطة بعد ذلك، فوجدت الشرطة في السيارة مسدسا آخر وكلاهما غير مرخصين والعديد من الطلقات وجهاز "جي بي إس" وبعض الهواتف النقالة وهاتف اتصال بالساتلايت وعدة إسعافات وتلسكوب وقاطعة أسلاك، وعدة بطاريات والعديد من كروت التعريف المختلفة التفاصيل، حيث تعرفه بعض البطاقات على أنه مقاول لوزارة الدفاع الأميركية وأخرى على أنه يعمل في القنصلية الأميركية في بيشاور.

ربما ما أثار اهتمام واستياء الشرطة كانت الصور الموجودة في كاميرته، والتي تحوي صور العشرات من المدارس الإسلامية في لاهور. هذه المدارس كانت ومازالت أهدافا للإرهاب، لذلك فإن هذا الحادث مع وضعه المشبوه والمال الذي بحوزته والتلفونات النقالة التي يستعملها الإرهابيون كأداة تفجير للقنابل كلها إشارات للشرطة باحتمال أن يكون هذا الشخص مرتبطا ببرنامج سري لتمويل أو تنفيذ تفجيرات إرهابية، مما يربطه بمجموعة من التفجيرات التي هزت باكستان في ذلك الوقت.

غني عن القول إن وزارة الخارجية الأميركية قد رفضت رفضا قاطعا القبض عليه من السلطات الباكستانية، مدعية أن لديه حصانة دبلوماسية رغم أنه دخل باكستان بفيزا تجارية وليس لدى وزارة الخارجية الباكستانية أي دليل على أنه دبلوماسي، بل إن الخارجية الأميركية استعملت كل وسائل الضغط العلني والسري بما فيها إلغاء مواعيد اجتماعات كانت مقررة بين وزيري خارجية البلدين حتى اضطرت باكستان للإفراج عنه.

ومهما تكن الحقيقة وحتى باعتبار أن أميركا لديها أهداف أمنية قومية شرعية من وزراء هذه العمليات فإنه ما من شك في أن هذه العمليات تضر بالأمن القومي الباكستاني، وتزيد من السخط الشعبي وتسحب الشرعية من الحكومة الباكستانية التي لم تجد بدا من السعي إلى وقف فوري لهذه العمليات.

هناك أخبار متفرقة أيضا بأن أميركا والهند اللتين تعتقدان أن القدرات النووية الباكستانية لا تساعد في استقرار المنطقة، متفقتان على ضرورة أن تقوم أميركا بوضع يدها على الأسلحة النووية الباكستانية في حالة حدوث فوضى وتفكك في باكستان بدعوى عدم السماح لهذه الأسلحة بالوقوع في أيدي الإرهابيين، بل يذهب البعض إلى أن الهجوم الأميركي على ما يسمى بمجمع بن لادن كان له علاقة بهذا الموضوع الأخير، ولم تساعد المناورات الهندية الضخمة التي أجرتها أكبر فرق الجيش الهندي بالقرب من حدود باكستان بداية هذه السنة إلا في زيادة القلق الباكستاني والتوجس من النوايا الأميركية.

لذا يمكننا في هذا السياق أن نفهم الأخبار التي رشحت عن اجتماع اللجنة الأمنية في مجلس الوزراء الباكستاني في مايو الماضي الذي شهد اتخاذ القرار بالتحالف مع الصين، والذي قيل فيه إن قادة الجيش الباكستاني أكدوا ضرورة إعطاء أميركا "درسا لن تنساه".

لا شك أننا في دول الخليج تربطنا مع باكستان علاقة استراتيجية، فهي أولا تشكل معنا في دول الخليج طرفي كماشة جغرافية حول إيران تساعد في إبقاء الطموحات الإيرانية في حدودها الدنيا، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار القدرات العسكرية والنووية الباكستانية والتعداد السكاني البالغ 180 مليون نسمة. باكستان أيضا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي لها قدرات نووية وتشكل نظريا على الأقل عامل ردع وتوازن أمام القدرات النووية الإسرائيلية، فلو هاجمت إسرائيل السعودية- لا قدر الله- بصاروخ نووي فسينطلق صاروخ نووي باكستاني باتجاه تل أبيب.

رغم استبعاد حدوث مثل هذه المواجهة، فعلى الورق يشكل هذا التوازن بعدا يؤثر في الشروط التي يمكن أن تفرضها إسرائيل في عملية السلام، خصوصا على عملية التطبيع التي لا تقل أهمية استراتيجيا لإسرائيل لأنها لن تستطيع البقاء اقتصاديا في الأمد البعيد بدون التطبيع مع الدول العربية، لذلك ربما كان هذا السبب في التحالف بين جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) وجهاز الاستخبارات الهندي (راو) في محاولة القضاء على القدرات النووية الباكستانية وبموافقة أميركية.

عامل آخر مهم لدول الخليج أنه إذا انهارت الدولة الباكستانية فستبرز كثير من الجماعات الراديكالية والإرهابية التي يردعها حاليا وجود الدولة، والتي يمكن أن تشكل رافدا لقدرات "القاعدة" وخطرا يهدد الأمن القومي لدول الخليج، لذا فاستقرار باكستان وقوتها عاملان مهمان لاستقرار دول الخليج وأمانها.

لابد أن نأخذ في حسابنا أيضا الانشغال الأميركي عن دول الخليج لاتساع مناطق الاضطرابات في العالم وتضعضع القدرات العسكرية الأميركية التي أرهقتها سنوات من حروب العصابات في العراق وأفغانستان وانهيار الاقتصاد الأميركي المصاحب لدين حكومي لم ير التاريخ مثله، ويقابل ذلك بروز الصين كدولة عظمى فتية على الساحة العالمية لنا مصالح استراتيجية متبادلة معها، إذ تذهب ثلاثة أرباع صادراتنا البترولية إلى دول شرق آسيا ومنها الصين، لهذا فتأمين مضيق هرمز والإمدادات البترولية هي أهمية استراتيجية قصوى ليس لنا فقط بل للصين التي حان الوقت لها أن تضطلع بمسؤولياتها في تأمين إمداداتها البترولية.

بل إن أميركا التي تعتمد بشكل مباشر على القروض الصينية لتمويل الإنفاق الفدرالي الأميركي يهمها أيضا استمرار تدفق البترول الخليجي إلى الصين حتى يستمر النمو الصيني، وبالتالي الاستثمار الصيني في سندات الخزينة الأميركية التي تعتبر الصين أكبر مستثمر فيها في العالم.

لذا ربما حان الوقت لدول الخليج وعلى رأسها السعودية أن تدرس إقامة محور خليجي باكستاني صيني ليس اقتصاديا فحسب، بل أمني عسكري وسياسي يؤطر العلاقة الاستراتيجية القائمة حاليا، ويؤسس لمستقبل ستكون فيه الصين دولة لا تقل عن أميركا في قدراتها العسكرية والاقتصادية.

في نفس الوقت هذا التقارب الذي ربما يأخذ شكل منظمة أو مجلس للتعاون، أو حتى ترتيبات أمنية اقتصادية في شكل اتفاقيات ثنائية أو ثلاثية الأطراف سيكون عاملا مساعدا على استقرار المنطقة في ظل هذا الزلزال من عدم الاستقرار الذي يعصف بنا من كل الاتجاهات، والذي ربما يستمر لسنوات، مؤججا بالاختلافات الطائفية والدينية والقبلية، والتدخلات الدولية، والمخاض الطبيعي لأي عملية سياسية.

نظرة واحدة على الواقع العراقي كافية لقراءة مستقبل الشرق الأوسط الجديد للسنوات القادمة، كما أن هذا المحور لا يحتاج أن يكون على حساب علاقة دول التعاون الاستراتيجية بأميركا، فلسنا بحاجة إلى ذلك، والصين أذكى من أن تطلب منا شيئا من هذا القبيل. في حين أن باكستان ستظل محافظة على الشعرة التي تربطها بأميركا ما وسعها ذلك، لذا فإن ما نحتاجه في هذا الوقت هو زيادة رقعة العلاقات الاستراتيجية الدولية، وبالذات في المجالات الأمنية والعسكرية وليس إعادة رسم أو تغيير هذه العلاقات.

* مستشار اقتصادي واستثماري

الرئيس التنفيذي للشركة الخليجية لتطوير المشاريع

back to top