70 عاماً على غياب ستيفان زفايغ .. انتحر بعدما دمّرت أوروبا نفسها

نشر في 05-03-2012 | 00:02
آخر تحديث 05-03-2012 | 00:02
No Image Caption
أقدم الروائي والكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (1881 - 1942)  بمحض إرادته على الانتحار مع زوجته بعدما شهد أوروبا (موطنه الروحي) تعاني ويلات الحرب العالمية الثانية و{تدمر نفسها»، حسبما جاء في رسالته الوداعية.

اليوم، مع مرور الذكرى السبعين على رحيل ستيفان زفايغ أو «الصديق الجريح» كما وصفته الكاتبة دومينيك بونا،  يتداول بعض المواقع الإلكترونية رسالته الوداعية وفيها شرح الأسباب التي دفعته إلى الانتحار بعد هجرته القسرية من أوروبا إلى البرازيل، قائلاً إنه يودع هذا العالم بمحض إرادته، ووعيه الكامل.

كتب زفايغ: «في كل مرة كنت أتعلم كيف أحب هذا البلد أكثر، ولم أكن قادراً على تأسيس حياتي مجدداً في مكانٍ آخر، بعد أن فقدت الناس الذين يتكلمون لغتي الأم، وموطني الروحي، أوروبا، وهو يدمّر نفسه». وتمنى لجميع أصدقائه «البقاء على قيد الحياة لتتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل»، شارحاً أسباب إقدامه على الانتحار: «لذلك، أفضل وضع حداً لحياتي، في الوقت المناسب، كرجل كانت أعماله الثقافية دائماً سعادته الأكثر نقاء، وحريته الشخصية».

شكّل انتحار زفايغ رسالة احتجاج على ما أصاب أوروبا من جنون وتدمير، وليس وحده من لجأ إلى هذا الخيار، فالفيلسوف الألماني فالتر بنيامين فضل الانتحار على الوقوع في أيدي النازيين، وعند الحدود الفرنسية - الإسبانية في 25 سبتمبر عام 1940، وبعد فشل محاولته الهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية وهلعه الشديد من الوقوع في أيدي «الغستابو» الألمان وانغلاق جميع نوافذ الأمل في وجهه، تناول حفنة من حبات المورفين كانت كافية لقتل حصان، في الوقت الذي كان الفيلسوفان ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو يترقبان وصوله إلى نيويورك. على أن سخرية القدر أبت أن تفارق بنيامين حتى في موته؛ ففي اليوم التالي لانتحاره تلقت الكاتبة الشهيرة حنا آردنت والمجموعة التي كانت معها تصريحاً بعبور الحدود، لكنها جمعت أوراق وصية بنيامين معها كي تنشرها بعد وفاته المأساوية.

ينتمي بنيامين وزفايغ إلى الديانة اليهودية وتجمعهما ثقافة واحدة تستند إلى النقد والبحث عن المعرفة، بعد غياب الأول بسنوات صارت أفكاره نموذجاً لكل زمان، خصوصاً تلك التي تتعلق بالاستنساخ في العصر الصناعي وشعر بودلير وزمن ضياع الهالة. أما زفايغ فتبدو سيرته التراجيدية نوعاً من رواية خاصة، فيها كثير من الأسرار والمعيطات الغريبة.

في 21 فبراير عام 1942، جلس في بيته الفخم في البرازيل يودع معارفه بريدياً ويشرح لهم أسباب إصراره على الانتحار، وكتب يومذاك 192 رسالة وداع بما فيها رسالة إلى زوجته الأولى. دخل بعد ذلك زفايغ وزوجته الثانية إلى غرفة النوم وابتلعا في لحظة واحدة عشرات من الأقراص المنومة وتعانقا وطال العناق حتى الموت.‏ في اليوم التالي، اقتحم خدم المنزل غرفة النوم لتأخرهما في الاستيقاظ المعتاد ليجدوا الأديب وزوجته قد فارقا الحياة، ولم ينس الروائي أن يعطي كلبه المدلل جرعة كبيرة من المنومات فنام بدوره أمام باب الغرفة.‏

قمة الشهرة

عندما انتحر زفايغ أصبح أشهر كاتب في العالم، وعادة ما يؤدي مثل هذه الأحداث المثيرة إلى قمة الشهرة، خصوصاً في الحقل الأدبي. لكن اسم زفايغ سرعان ما أصبح منسياً مع استمرار الحرب العالمية الثانية. إلا أنه عاد في السنوات الأخيرة إلى الواجهة إن لناحية رواج كتبه ورواياته أو لجهة تدوين كتب تتناول حياته وأسباب انتحاره وسيرته الغامضة - الواضحة.

ثمة عشرات من الكتب التي تروي سيرته أو تدرس رواياته أو علاقته بزوجته وصولاً إلى أيامه الأخيرة، فقد أصدر الباحث لوران سكسيك كتاباً بعنوان «أيام ستيفان زفايغ الأخيرة» حول فترة وجود الروائي في البرزايل هناك حيث انتهى من كتابة مذكراته «عالم الأمس» وورد فيها: «هكذا، لم يعد أي مكانة ولا في أي مكان... حتى الوطن الحقيقي الذي اختاره قلبي، أوروبا، قد فقدته منذ أن لجأت للمرة الثانية إلى الانتحار، إنها تتمزق في حرب أخوية».

انتحر زفايغ في عام 1942، حول هذه الفترة الأخيرة يأتي كتاب لوران سيكسيك الذي يحدده بين تاريخين، من شهر سبتمبر ولغاية فبراير، حيث نجد أن الحوار، حتى بين زفايغ وزوجته كما بينه وبين أصدقائه بدأ بالتلاشي، إذ فقد القدرة على الوقوف في مواجهة هذه المأساة.

أما الكاتبة الفرنسية دومينيك ديزانتي، فكتبت عن «الحب المجنون» الذي جمع زفايغ وزوجته ضمن كتاب عن حب الأدباء. قالت إنه كان أحد أشهر كتاب أوروبا في ما بين الحربين العالميتين، وكان من أسرة غنية ويملك من المال الكثير. بالتالي، أتاح له هذا الغنى أن يتفرغ للكتابة ويؤلف سير العظماء من بلزاك، إلى ديستويفسكي، إلى نيتشه. باختصار، كان الرجل قد جمع المجد من طرفيه، ومع ذلك قرر الانتحار. لماذا إذاً؟ من المعلوم أن توماس مان عندما سمع بانتحاره لم يصدق في البداية. لكن عندما تأكد من النبأ لم ينزعج عليه بقدر ما غضب جداً. قال للمقربين منه: «كيف ينتحر وهو الغني المترف؟ نحن الكتّاب الذين نشكو من النواحي المادية والفقر والجوع يمكن أن ننتحر بل ويعذرنا التاريخ إذا ما انتحرنا، أما هو فلا شيء يعذره».

ثم أردفت المؤلفة قائلة: «لا يمكن تفسير هذا الانتحار المفاجئ الذي هزَّ المثقفين الألمان وصعقهم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار عوامل عدة، أولها أن زفايغ كان متفائلاً بالحضارة الأوروبية المليئة بالنزعة الإنسانية. لكن صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا شوَّه هذه الصورة الحضارية لديه فراح ييأس من الإنسان والإنسانية والحداثة الأوروبية. وكان يعتقد أن هتلر سينتصر في الحرب، بالتالي فلا أمل في المستقبل. لذلك وضع حداً لحياته وانتحر».

في المقابل، ثمة تفسير آخر، وهو أن زفايغ كان مصاباً بمرض نفسي لا علاج له، دفعه في لحظة يأس وسوداوية إلى اتخاذ قرار بالانتحار. لكن لماذا فرض هذا القرار على زوجته الشابة التي لم تكن قد تجاوزت الرابعة والثلاثين من العمر؟ لماذا لم ينتحر لوحده؟ أليست هذه أنانية، بل وجريمة؟ من دون أن ننسى أنه أعطى حبوباً منومة لكلبه أيضاً ليذهب في الموت معهما.

أما الكاتبة دومينيك بونا فبحثت عن «سر زفايغ»، ذهبت للتقصي في فيينا وسالزبورغ، حيث أمضى شطراً من حياته، في محاولة لفهم «العلاقة المعقّدة التي يمتزج فيها الحب والكره» حيال النمسا. كذلك دفعت بها تحرياتها إلى بيتروبوليس في البرازيل حيث انتحر هو وزوجته معاً على خلفية «حالة من اليأس». لكن ما تكشف عنه المؤلفة هو أن زفايغ الذي كان يظهر للجميع أنه «رجل زاهد وجدّي»، إنما كان في «حاجة» طيلة حياته إلى «مغامرات قد تدوم ساعات أو أشهراً».

يُشار إلى أن زوجته الأولى فريديريك تعبت من «مغامراته العاطفية» وانفصلا في عام 1932. أما زوجته الثانية فإن «قربها من كل ما كان يحبه، هو الذي أيقظ غريزة الحب عنده»، كما تكتب دومينيك بونا. وتشرح أن هذه «المعجبة الأبدية» حاولت عبثاً أن تثنيه عن الانتحار ودفعها إخلاصها له إلى الموت إلى جانبه، ومشاركته رفضه الحرب.

سيرة

ولد زفايغ عام 1881 في فيينا من أب ثري يعمل في صناعة النسيج وأم ترتدي الثياب الحريرية وتتجول بين الصالونات البرجوازية. على رغم كونه يهودياً، لكنه لم يكن يمارس ديانته كشقيقه الأكبر. وكان يرى في المدرسة سجناً ويفضل التردد على المسرح وحضور الحفلات الموسيقية لبرامز أو شوبيرت وارتياد المقاهي المكتظة بالأدباء... في سن التاسعة عشرة، أصدر أولى مجموعاته الشعرية وكانت بعنوان «حبال من الفضة» لتحظى بإعجاب النقاد وكتب عنها ريلكه كلمات مؤثرة. كان زفايغ يحلم بمغادرة فيينا، فذهب إلى برلين ليتعرف إلى كتاب الأدب الطليعي، بعدها عاد إلى فيينا لينهي الدكتوراه في الفلسفة عام 1904، ثم أمضى ست سنوات متسكعاً في دول أوروبا والهند والولايات المتحدة في محاولة دائمة منه لتبادل الأفكار... كذلك أمضى شطراً طويلاً من حياته في ترجمة أعمال مشاهير الأدب إلى اللغة الألمانية والكتابة عنهم، ومن بينهم رومان رولان وإميلي فيرهرن وهيرمان هيسه وهنريش مان وجيمس جويس. هكذا، نجح في إقامة علاقات وطيدة مع كتاب وموسيقيين كثر استقبل بعضاً منهم في منزله في سالزبورغ من أمثال بيير جان جوف وبول فاليري ورابندرانات طاغور وبيللا بارتوك وموريس رافيل وريتشارد شتراوس الذي كان يعزف لهم على البيانو.

back to top