صانعة النجوم عاشت في أحضان الأُنس والألم...(2) بديعة مصابني... آلام بلا حدود

نشر في 12-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 12-08-2010 | 00:00
لم تكن بديعة تكره الشام، فهي أولاً وأخيراً وطنها، وكم كانت تشتاق إليها في غربتها الصعبة، إلا أن الفضيحة التي لحقت بها هناك بعد حادثة الاغتصاب كانت تطاردها في كل وقت وحين. لكن في النهاية، عادت بديعة مع أسرتها من الأرجنتين ونزلت في بيت خالتها، لأن البيت القديم رهنته الأم قبل سفر العائلة.

استقبلت الخالة وبناتها العائلة بفرح كبير واكتظّت الدار بالجيران والأصدقاء للاستفسار عن أهلهم وأقاربهم في الأرجنتين وعن أحوالهم، وفي الليل توارى الحديث عن الرحلة وانتهت استفسارات الناس، وخفتت الأصوات.

عادت العائلة من الأرجنتين لاستلام نصيبها من ميراث الجدّة، إلا أن الأم صُدمت بعد إنكار شقيقتها أي تركة أو إرث، فراحت تبكي حالها وفقرها، وأمام إصرارها قالت لها شقيقتها في نهاية الأمر إن أمها تركت منزلاً وحيداً في حارة صغيرة، وإزاء الانهيار الذي انتابها اصطحبها ابنها توفيق وأخته بديعة للإقامة معه في منزله.

تدخّل الوسطاء لإقناع الأم بشراء حصة أختها من بيت أمهما، ظناً منهم أنها عادت ومعها أطنان من المال، فراحت هذه الأخيرة تبكي وتحكي لهم فشل أبنائها في التجارة وتشرّدهم في كل مكان وزواج ابنتها نظلة من رجل في سن أبيها ومضايقات الشرطة لها في شوارع بيونس إيرس، بالتالي هي عاجزة عن شراء حصة شقيقتها، فما كان من هذه الأخيرة، إلا أن عرضت أن تشتري حصة أم بديعة لقاء 150 ليرة عثمانية ذهبية. استلمت الأم المبلغ فاستعادت حياتها ونشاطها مجدداً، وحلّت رهنية منزلها القديم، وعادت إليه مع ابنتها بديعة.

صراعات مستمرّة

بعد العودة إلى بيتهما، راح توفيق يتردّد على المنزل بحجة الاطمئنان على أمه، من ثم أعرب عن رغبته في الإقامة معهما هو وزوجته، ولم يترك طريقة أو حيلة إلا ولجأ إليها حتى خارت قوى الأم في مقاومة الفكرة، ورضخت في النهاية للأمر الواقع، ووافقت على أن يقيم توفيق وزوجته معهما في المنزل.

لم تكد تمضي فترة قصيرة حتى اصطدمت زوجة الإبن بعناد الأم وسطوتها وتسلّطها، فشعرت بالمرارة، ولم تكن بديعة تملك من الأمر شيئاً، فقد عانت طويلاً من قهر الأم لها، كذلك لم يستطع توفيق أن يصنع شيئاً، فنشبت الصراعات مجدداً في بيت آل مصابني، حتى وصلت الى مرأى الجيران ومسمعهم، أمام إصرار الأم على عدم التخلّي عن عادتها القديمة في نشر أسرار العائلة المخزية على مسمع من الناس...

بلغ الصراع بين الأم والزوجة درجة وصلت إلى اتهام الأولى الثانية بتدبير جريمة قتل لها ولبديعة. ولتأكيد ادعائها طهت أكلة تدعى «غمّى» وتركتها حتى تعفنت، من ثم أجبرت بديعة على مشاركتها الطعام، فظهرت عليهما فوراً أعراض تسمّم. أشاعت الأم في كل مكان أن فريدة زوجة ابنها توفيق وضعت السمّ لهما في الطعام، لتتخلص منهما وتنفرد بالمنزل، وكعادتها راحت تبكي وتنتحب لتدعم كلامها بأسانيد بهدف إقناع أي مستمع لها من دون أن يحاول تكذيب ذلك، وطلبت من بديعة أن تمثّل الدور نفسه.

لم ينته الأمر عند هذا الحدّ بل استدعت شيخ الحارة والطبيب لتأكيد التهمة وتثبيتها على المسكينة زوجة ابنها، إلا أن بديعة رفضت أن تشاركها في هذه الجريمة، فناءت تحت ضرب والدتها المبرح، وانكشفت اللعبة ورفعت التهمة عن فريدة.

فتاة جميلة وناضجة

وسط هذا المناخ عاشت بديعة، وسرعان ما أصبحت الطفلة الصغيرة فتاة جميلة، ظهرت عليها علامات الأنوثة وتوهج جسمها وجمالها وتمتعت بجاذبية غير عادية، فلاحقها الشبان في أنحاء الشام وأصبحت فتاة أحلامهم، في وقت كانت تذوق فيه الذل والهوان، وتعاني سوء تغذية شديداً، وكانت ثيابها تشي بحالة الفقر المدقع التي تعيشها، لدرجة أنها كانت تفترش ووالدتها الأرض وتنامان من دون سرير.

لم يحل الفقر والعوز دون معاناة بديعة حقد أهالي الحي وغيرتهم فسعوا بكل ما لديهم من قوة إلى الانتقام من جمالها، وراحوا يسترجعون ماضيها الأليم ويروون قصة اغتصابها ويرددون في خبث ومكر: «جميلة وحلوة... لكن مسكينة لأن فلاناً اعتدى عليها وهي في السابعة من عمرها، من يا ترى سيقبل بأن يتزوجها... !!».

كانت بديعة تستمع إلى هذا الكلام ليل نهار وتتساءل عن الذنب الذي فعلته، وأمام حزنها تأثرت الأم للمرة الأولى ورثت لحال ابنتها المسكينة، فطلبت بديعة من أمها الرحيل ثانيةً عن بلدهما إلى بيت شقيقتها نظلة في قرية «شيخان»، منطقة شمال لبنان، حيث استقرت مع زوجها بعد عودتهما من الأرجنتين وبعثت إلى أمها برسالة تدعوها إلى الإقامة معها، وبالفعل استجابت الأم وقررت الرحيل.

ادعت الأم «النكدية» أنها لا تملك مصاريف الرحلة، وخيّرت بديعة بين البقاء في الشام أو السفر سيراً على الأقدام إلى لبنان، فوافقت بديعة وحملا حقائبهما وبعض الأمتعة والزاد، وأخفيا معالم وجهيهما ومضيا في طريقهما إلى لبنان.

الهروب إلى لبنان

لم تخشَ بديعة مخاطر الطريق ولا أشباح الظلام أو اللصوص وقطّاع الطرق، وسارت إلى جوار أمها في سرور وفرح بالغين، ربما تجد في رحلتها الجديدة حياة أفضل وأشخاصاً تطمئن إليهم.

مرت ثلاث ليال وهما في الطريق، حاولت بديعة أن تقنع الأم بأن تستقلا القطار إلا أنها رفضت حتى السفر في قطار درجة ثالثة مع أن أجرته كانت زهيدة لا تتجاوز الريالين من العملة التركية، هكذا لم تتمكنا من قطع نصف المسافة على رغم مرور أسبوع وهما تسيران على الأقدام.

كانت الأم بخيلة إلى أقصى درجة فتابعت رحلتها من دون أن تنفق قرشاً واحداً، بل فرضت نفسها كضيفة وعابرة سبيل على بعض الأسر في طريق رحلتها، فإذا نزلت على مسلمين أشهرت إسلامها في الحال، أما إذا نزلت في منزل أسرة مسيحية فتعود فوراً إلى دينها وتقرّ بمسيحيتها!!

ما إن وصلتا إلى منطقة ضهر البيدر في لبنان حتى كانت في انتظارهما ليلة سوداء جديدة تضاف إلى رصيد لياليهما السابقة، فلم تجد الأم من يستضيفهما أو يأويهما سوى المبيت في خان (لوكاندة) مخصص للمسافرين على الحمير والبغال والجمال، بالتالي كان يعجّ بالبشر والحيوانات، ويكتظ بالقمل والبراغيث والبق... لم تعرف بديعة النوم في تلك الليلة، فتولد في داخلها نوع من التمرّد على الفقر والقهر والظلم، وبدأت تفكر في البديل وتنتبه إلى البؤس الملاصق لها كظلها منذ ولدت والفرح البعيد الذي لا يأتي إليها أبداً، وراحت تمني نفسها بالتخلّص من حياتها التعيسة هذه، وما إن حلّ الصباح حتى غادرت وأمها الخان.

بدأ الطريق مجدداً يفرد مسافاته، يطول والنعال تتقطع، وبدا الأمل بالوصول إلى القرية التي تسكن فيها نظلة بعيداً، فأشفق الناس على بديعة وأمها وأعطوهما أحذية بديلة، إلى أن وصلتا إلى بيروت، وهناك سألت بديعة عن الطريق نحو «شيخان».

كان في بداية الطريق إسطبل يؤجر الحمير والبغال والجياد للمسافرين، لقاء ثمن زهيد جداً، وبعد محاولات اختلط فيها التوسّل بالبكاء، وافقت الأم على أن تنفق من مالها، واستأجرت حماراً تمتطيانه بالتناوب، وبعد طريق طويل ووعر وعذاب مرير، وصلت بديعة وأمها إلى «شيخان»، يحدوهما الأمل بحياة جديدة وسعيدة.

في بيت نظلة

كانت ابنة نظلة ماري تزوجت وأنجبت طفلاً يدعى أنطوان، فأخذت بديعة تداعبه، وبعدما انتهت طقوس الاستقبال، سألتهما نظلة عن الرحلة، فانبرت بديعة في وصف الرحلة الشاقة، إلا أن الأم كانت أسرع من البرق ووصفت الرحلة بالممتعة والهانئة، وأنهما استقلتا القطار وامتطيتا الجياد وغيرها من الأكاذيب.

بعيداً عن أمها روت بديعة لنظلة عذاب الرحلة ومشاقها، ولما لم تصدقها كشفت بديعة عن قدميها المشققتين كدليل على صحة ما تقول، فصدّقت نظلة كلام أختها بديعة واستدرجت والدتها في الكلام، فأدركت هذه الأخيرة أن بديعة باحت لأختها بتفاصيل الرحلة، كعادتها انتفضت لتضربها، إلا أن نظلة أنقذت بديعة هذه المرة، لكن صوت الأم راح يعلو في أرجاء المكان، فتجمع الجيران على ضجيج صوتها وراحوا يتساءلون عن المصيبة التي حلت بأسرة نظلة، وبعد محاولات حثيثة استطاع زوج نظلة إعادة الأم إلى رشدها.

لم تنم الأم ليلتها، وعنّفت بديعة بكل ما تملك من ألفاظ، وأخبرتها بأنهما ستغادران «شيخان» في الصباح الباكر، وبالفعل استيقظت بديعة على ركلة أمها لها لتوقظها، ولم تنجح توسّلات نظلة في ثنيها عن قرارها.

هكذا تركت بديعة الراحة والطعام الطيب والحياة الناعمة الهادئة في أول أيامها، وعادت إلى التشرد، فرافقت أمها وعندما حاولت الاستفسار عن الجهة التي تقصدانها نهرتها الأم بالقول بأن عليها السير برفقتها من دون أي تعليق، ومن سجن إلى آخر ومن حزن إلى ثان انتقلت بديعة مع أمها.

في الطريق تاهت الأم واتجهت سهواً نحو طرابلس، وعندما حاولت بديعة أن تهديها إلى الطريق الصواب انفجرت الأم في وجهها، وقالت لها: «إذا كنت لا تريدين رفقتي فاذهبي إلى حيث تشائين»، وكأن بديعة كانت تنتظر هذه الكلمة لتكسر قيد أمها الحديدي، فأطلقت ساقيها للريح في اتجاه بيت شقيقتها نظلة، لكن الأم فطنت إلى أن ابنتها قد تعيش حياة هانئة وهذا أمر يعذبها، فنادتها لكن بديعة لم تعرها أي انتباه، وكعادتها لجأت إلى الصراخ: «الحقوني، ابنتي سرقت مالي وفرّت ولا تريد العيش معي»، فما كان من المارة إلا أن لحقوا ببديعة وأعادوها إلى أمها وقدرها الأسود في الحياة، وبعد شجار عنيف مع المارة وجرجرتها على الأرض، اضطرت بديعة إلى أن تستسلم وترافق أمها وهي منكّسة الرأس سليبة الإرادة.

في سجن النساء

بعد مسافات طويلة سألت الأم أحد المارة عن وجهة طريقهما فأجابها بأنهما على وشك الوصول إلى طرابلس، فحاولت بديعة أن تقصيها عن الطريق والعودة إلى بيروت إلا أن الأم لم تعرها أي اهتمام، وصممت على السير في الطريق الخطأ لتغيظها.

بدأت فكرة الهرب تنمو في ذهن بديعة، وراحت تبحث عن فرصة لتحقيق ما تفكر فيه، إلا أنها سرعان ما عادت إلى رشدها، وتذكرت أنها فتاة صغيرة لا تقوى على مواجهة صعاب الحياة لاسيما أنها جميلة ومن السهل افتراسها، فآثرت البقاء إلى جانب تلك الأم النكدية.

حلّ رحالهما في بلدة البترون، وراحتا تقرعان الأبواب بحثاً عن الخبز والمبيت، فاستضافتهما إحدى الأسر الكريمة، وفي الصباح تابعت الأم وابنتها طريقهما إلى أن وصلتا طرابلس التي كانت خاضعة للحكم العثماني آنذاك، فوقفتا عند نقطة تفتيش حيث كان رجال الشرطة يحققون مع القادمين إلى المدينة، وحاولت الأم إقناعهم بأنها مسلمة، فلفتت بديعة انتباه أحد رجال الشرطة بجمالها وهدوئها عكس تصرفات والدتها، وظنّ رئيس النقطة أن هذه السيدة ليست أم بديعة وقد تكون إحدى تاجرات الرقيق الأبيض، فأشفق الضابط على بديعة وأمر بحبسهما في سجن النساء، حيث قضتا أربعة أيام بين المجرمين وقطاع الطرق، وفي اليوم الخامس بدأ التحقيق معهما، وأفرج عنهما بكفالة دفعتها لهما مطرانية الروم الأرثوذكس في طرابلس.

قررت الأم العودة ثانيةً إلى «شيخان»، وهناك عرفت بديعة طعم السعادة للمرة الأولى وأحبت الغناء والصحبة وطقوس اللبنانيين، وعشقت السهرات تحت ضوء القمر، وحفظت الميجانا والعتابا، وذهبت بخيالها بعيداً فتذكرت الغناء باللغة الإسبانية وراحت تغني ما حفظته. كانت القرى من حولها يملؤها الخير والهناء، ولم تكن بديعة تقلق إلا من تقلبات أمها، وعلى رغم السعادة التي أحاطت بها إلا أنها كانت تترقب الوقت الذي تعود فيه أمها إلى النكد.

رحلة شقاء جديدة!

في إحدى الليالي طلبت الأم من بديعة تجهيز نفسها للرحيل معها إلى بيروت، إلا أن نظلة ثارت على أمها ورفضت بشدة، وطلبت منها أن تذهب بمفردها وتترك بديعة، وعللت ذلك بأن أحد أبناء القرية يريد الزواج منها، فأخذت الأم تصرخ وتلطم وجهها قائلة: «لا أريد أن تتزوج ابنتي بأحد الفلاحين»، فتدخل زوج نظلة وأخبر الأم بأن الشاب الذي يريد الزواج من بديعة ليس فلاحاً، بل هو متعلم وطموح... لم تقتنع الأم وراحت تولول ونهرت زوج ابنتها قائلة: «لا تتدخل في شؤوننا»، ثم أمسكت ببديعة وراحت تجرجرها على الأرض على مرأى من أهل القرية، وفي النهاية نفذت الأم هدفها في القضاء على حياة الاستقرار التي كانت تنعم بها بديعة، وراحت تهيئها لغربة أخرى ورحلة قاسية ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وغيرها من الرحلات المؤلمة.

غادرتا قرية «شيخان»، وفارقت بديعة أحباءها الطيبين، ومضت مع قدرها المتمثل في أمها نحو بيروت، مع أن نظلة أعطت الأم بعض النقود لإنفاقها في الرحلة، إلا أن هذه الأخيرة عاودت تجربة السير على الأقدام والتسوّل والليالي السود.

back to top