صانعة النجوم عاشت في أحضان الأُنس والألم... (الأخيرة) بديعة مصابني... إني راحلة

نشر في 26-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 26-08-2010 | 00:00
في خريف 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية فتغيرت معها الخريطة الفنية في مصر وتوافدت الجيوش البريطانية على الملاهي والكازينوهات، وكانت صالة بديعة تحتفل كل مساء بالضباط وبالعائلات المصرية الكبيرة، بينما جمعت ببا في صالتها المنحرفين من الجنود ومحترفي الشغب، الذين، ما إن ينغمسوا في الشراب، حتى يكسّروا كل الأشياء من حولهم، ما اضطرها إلى إغلاق صالتها والعودة إلى الإسكندرية بصحبة أنطوان المتيّم بحبها والذي أشهر إسلامه ليتزوّج بها، لكن ثمة من قال إنه فعل ذلك لرغبته في الزواج من الراقصة الجديدة تحية كاريوكا.

آنذاك، تحوّل شارع عماد الدين في القاهرة وصالاته الفنية، بفعل الحرب، إلى فوضى كبيرة وغوغائية لافتة، فتحمست بديعة لفكرة بناء سينما ومسرح في ميدان الأوبرا، أشهر ميادين القاهرة، على أن يتحمل بنك مصر التكاليف كلها، بالفعل تحقق الحلم وحضّرت «اسكتش» يتمحور حول هتلر وموسوليني وستالين لتقدّمه ليلة الافتتاح، لكن لسوء حظها اغتيل في الليلة نفسها علي ماهر باشا، رئيس الوزراء المصري آنذاك، فأعادت بديعة ثمن التذاكر إلى أصحابها وتأجل العرض الى أن تنتهي مراسم الجنازة، وبعد ذلك أقبل الجمهور على المسرح بأعداد غفيرة.

لم يكن ثمة حديث في القاهرة سوى عن كازينو بديعة مصابني، لكن هذا النجاح لم يستمر طويلاً بسبب الفوضى التي خلفتها ظروف الحرب وإعلان الحكومة المصرية عزمها على تحصيل ضرائب دخل لم تكن موجودة قبل الحرب، وكانت غالبيتها جزافاً ومن دون وجه حق، ما دفع كثراً إلى الفرار من مصر ورفع آخرون دعاوى ضد تعنت الحكومة، وكانت بديعة من بين الذين فرضت عليهم ضرائب تعسفية، فدفعت 39 ألف جنيه بطيب خاطر، إذ كان العمل أثناء الحرب يدرّ على الملاهي والصالات الفنية مبالغ طائلة، وأدت بديعة في تلك الفترة بطولة أفلام سينمائية، أشهرها «أم السعد».

ماري ابنة شقيقها

كانت أخبار المعارك على الجبهات تأتي مشوّهة، إلى أن راجت إشاعة مفادها أن الألمان، فور دخولهم القاهرة، سيشنقون عشرة أشخاص في ميدان الأوبرا من بينهم بديعة مصابني، فجمعت بديعة ملابسها ومجوهراتها وقطعت تذكرة بالقطار إلى «حيفا» ومنها سافرت إلى لبنان، فأقامت فيه إلى أن هدأت الأحوال في مصر، فعادت إليها ثم رجعت ثانية إلى بيروت لتستعيد ملابسها ومجوهراتها، وفي تلك الأثناء صدر قرار بمنع خروج المال والمجوهرات من مصر.

بعد عودتها إلى مصر، جاءها شقيقها توفيق برفقة ولديه فؤاد وماري، فأخذ منها نفقات سفره إلى أميركا، ثم ذهب إلى دمشق وظلت ماري في مصر بعدما استطابت مناخها وأحبته، ولم تطل إقامتها مع بديعة إذ تزوجت وانتقلت إلى منزل زوجها في حي مصر الجديدة.

بعدما رُزقت بطفلين عرضت بديعة على ماري الإقامة معها، فطارت من الفرحة وأقبلت على بديعة تعانقها، فاشترت هذه الأخيرة فيلا أنيقة دفعت ثمنها 12ألف و500 جنيه وانتقلت إليها مع ماري وزوجها وأطفالها، وعاشت حياة هادئة لم تكن تتصورها أو تحلم بها.

استنفد شراء الفيلا وتجهيزها رصيد بديعة، فاضطرت الى بيع قرط من الماس الثمين لتسدّد إيجار الكازينو، إلا أنها فوجئت بردة فعل ماري الساخرة وغير المصدقة عندما أخبرتها بما فعلت، فوقع خلاف بينهما.

بعد ذلك سافرت ماري إلى دمشق لرؤية أمها، وسافرت بديعة مع أحد أصدقائها المقربين إلى بيروت، وعندما علم أنطوان بموضوع الخلاف، طلب من ذلك الصديق العمل على إعادة المياه إلى مجاريها بين خالته وماري، وفي أثناء وجودها في لبنان علمت بديعة بوفاة والد زوجة شقيقها وعندما قصدت منزل أخيها لتعزيتها قابلتها ماري مقابلة جافة للغاية، فخرجت بديعة غاضبة وعادت إلى مصر.

أنطوان وثريا حلمي

كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بانتصار الحلفاء، وأصبح بإمكان أي كان السفر إلى الخارج وباتت تغذية المسارح بعناصر جديدة ضرورة ملحة، ففكرت بديعة بالسفر لتتعاقد مع فرق تليق بمكانة كازينو بديعة مصابني، إلا أنها احتارت بين الذهاب إلى فرنسا أو تشيكوسلوفاكيا أو إيطاليا، وفي تلك الفترة أعاد الجيش البريطاني إليها العمارة في حي «غاردن سيتي» التي كان قد صادرها، فعرضت فيلتها للبيع، وعاد أنطوان للإقامة معها، وسامحته على رغم الإساءات التي افتعلها بحقها.

بعدما حصلت بديعة على تذاكر السفر، أقلقها مصير أنطوان في غيابها، فهو لا يحقّ له أن يرثها إذا حدث لها مكروه، ما دفعها إلى أن تسجل الكازينو باسمه، كذلك سجلت له العمارة مع الاحتفاظ لنفسها بحقّ الرقابة عليها وتحصيل إيراداتها طيلة حياتها، من ثم سافرت مرتاحة البال وكانت على اتصال مستمر به، واشترت له الهدايا إلا أنها لم تخبره بموعد عودتها لكي تفاجئه ظناً منها أنها ستسعده.

ما إن دخلت بديعة إلى البيت حتى وجدته فارغاً فصدمت وهرعت إلى الكازينو من دون وعي بعدما اكتشفت أن ملابس أنطوان لم تكن في المنزل، فلم تجد سوى العمال الذين كانوا يشرفون على تنظيف المحل، سألت عن أنطوان، فأجابها العمال أنه يأتي متأخراً وتأتي بعده الست ثريا، فسألت بديعة من ثريا هذه؟ أجابها العامل: «ثريا حلمي»، أضاف: «يا خسارة يا ست من يوم سفرك والمحل خرب، والشغل واقف، والناس بتسأل عليك، ولما نسأل الخواجة أنطوان عنك يقول لا أعرف متى ستعود، أصبحت البرامج فوضى ومفيش احترام للعمل وللمواعيد زي زمان».

في تلك اللحظة دخل أنطوان فارتبك لرؤية خالته، واقترب منها ليقبل يديها، فحضنته ولم تفاتحه في شيء إلا على انفراد، وسألته عن سبب تركه البيت، فأجابها أنه أصبح موحشاً في غيابها ولم يعد يحتمل الوحدة، فسألته مجدداً عن سبب إهماله العمل علماً أنها جهزت له كل شيء قبل سفرها، فردّ عليها: «أثرت الحرب في الناس فلم يعودوا يقبلون على الملاهي كما السابق»، وسألته أيضاً: «ماذا ستفعل الآن؟» أجابها بكل وقاحة: «لا مانع لدي من أن أتنازل لك عن البيت والمحل إذا ما تعهدت بدفع الديون»، فوافقت بديعة لكنها لم تكن تعرف أن ديون أنطوان وصلت إلى 8 آلاف و200 جنيه مصري. لم يكتف بذلك، بل أصرّ على أن يأخذ منها ألفي جنيه ليترك لها المحل والبيت، فوافقت بديعة واستعادت الكازينو والبيت، وراحت ترتب كل شيء وتعيده إلى ما كان عليه قبل سفرها.

عودة الريحاني

بكثير من المكر والخبث، عادت ببا تستعطف بديعة مصابني كي تسامحها، وبالفعل نسيت ما صدر عن ببا من إساءات وألحقتها بالعمل معها، لكنها استاءت من معاملة ببا للجمهور فأبعدتها، عندها لجأت هذه الأخيرة إلى التآمر على بديعة واتفقت مع أحد المحامين على أن يقنعها ببيع الكازينو، ولما فشل نشرت ببا إشاعة أن بديعة ستبيع الكازينو الذي تملكه.

في أحد الأيام، بينما كانت بديعة في الكازينو تلعب «الدومينو» دخل عليها نجيب الريحاني وقابلها بالأحضان الحارة، ثم طلب منها أن يتفقد الكازينو، سارا معاً وتفقدا أجزاءه، ثم جلسا لتناول القهوة سوياً، فقالت له بديعة: «أخشى أن تكون قد جئت بسبب الإشاعة الرخيصة التي تقول إنني سأبيع الكازينو، فهل جئت تشتري الكازينو يا نجيب؟»، فرد فوراًعليها: «بل جئت لشرائك أنت، أرجوك أن تأتي غداً لتشاهدي الفيلا الجديدة التي أبنيها».

وفي صباح اليوم التالي رافقت بديعة الريحاني إلى الفيلا، وكان عامل الموزاييك منهمكاً في رصف الحجارة، فاستعجله الريحاني بإنهاء عمله قائلاً له: «أنت بقالك مدة طويلة بتصف الحجارة ويظهر إني هاموت قبل ما تنتهي»، وقبل أن تنصرف بديعة طلب منها أن تزوره في منزله الذي يعيش فيه، إلا أنها رفضت وقالت له: «لن أزورك في منزلك لأنني سمعت أنك تعيش مع سيدة يهودية»، فقاطعها الريحاني قائلاً: «أنتِ الأصل، وأول ما أرجع من الإسكندرية حيث سأحيي خمس حفلات يبقى ربنا يفرجها بإذن الله»، وعاد الأمل إلى بديعة بأن تستكمل حياتها في كنف الريحاني، وراحت تترقب أخباره بشوق.

رحيل الريحاني

ذات ليلة صعد الريحاني إلى المسرح وهو يترنح من التعب، إلا أنه تمالك نفسه وأبدع في أدائه بشكل غير مسبوق، ولم يضحك جمهوره مثلما ضحك في تلك الليلة، وما إن أسدل الستار وهو يحيي الجمهور حتى سقط مغشياً عليه فنقل إلى المستشفى الإيطالي. انتشر الخبر بسرعة البرق ووصل إلى بديعة فهرعت إلى المستشفى، إلا أنها فوجئت بسائق الريحاني واقفاً على الباب يلطم خديه، وعندما سألته بديعة عما به، قال لها والدموع تسبقه: «مات الأستاذ يا ست بديعة ... مات الأستاذ».

سقط الخبر على بديعة كالصاعقة، ولم تجد من يسندها سوى بديع خيري، الذي اقتادها حيث سجّي جثمان الريحاني، وكان هناك يوسف الريحاني شقيقه وبرفقته السيدة اليهودية. مع تدفّق الحشود لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على الريحاني كان لا بد من أن تقيم بديعة سرادق تتسع لهذا الكمّ من المعزين. حزن الجميع على الريحاني، وكانت جنازته مهيبة وكتبت الصحافة عن دوره في ابتكار مدرسة جديدة في المسرح.

بعد موت الريحاني بدأت المشاكل تظهر، كان يوسف الريحاني يرى في دموع بديعة وحزنها مجرد تمثيلية من أجل الميراث، فصرّح بأن نجيب طلقها قبل موته ولم يعد لها الحق في لقب أرملة نجيب الريحاني. ساء بديعة هذا التشهير فقصدت مطرانية السريان الكاثوليك، وجاءت بإعلام رسمي يثبت أن نجيب الريحاني لم يطلقها، لسبب بسيط هو أن طائفته لا تعترف بالطلاق، على هذا الأساس رفعت بديعة دعوى على شقيق الريحاني للحجز على ممتلكاته، وفُتح باب جديد من المشاكل.

بديعة والضرائب

يبدو أن بديعة لم تتعلم من تجاربها الكثيرة مع الرجال، فسافرت، بعد وفاة الريحاني، إلى بيروت حيث التقت شاباً راح يقنعها بأنه يريد الزواج بها، وأمام حلم الاستقرار الوهمي صدقت بديعة وعوده، فقال لها إنه يريد ترك وظيفته ويؤسس عملاً له، فسألته بديعة عن نوعية العمل، فقال لها: «مكتبة كبيرة»، على أن تدفع بديعة ثمنها كونه موظفاً بسيطاً لا يملك شيئاً. وافقت في الحال شرط ألا يجرحها أو يعيّرها بماضيها أو بأنها عاقر لا تنجب، وأخذ النقود وبدأت بديعة تتحين الفرص لتتخلص من الكازينو كي تعيش في بلدها، وقررت بيع المحل والأثاث، فاجتمعت بالمحامي وبأحد أصدقائها القدامى، وطلبت 30 ألف جنيه ثمن الكازينو، إلا أنها اقتنعت بـ 20 ألفاً من دون أن تعلم من هو المشتري، ثم علمت بعد ذلك أن ببا عز الدين اشترت الكازينو، فلم توقف بديعة البيع بل تساهلت معها، إلا أنها رفضت أن تلغي ببا اسم بديعة من على الكازينو واحتفظت هذه الأخيرة بالأوراق وطالت المفاوضات وتشعبت، إلى أن أرسلت مصلحة الضرائب مندوبيها للكشف على الدفاتر لتحديد المبالغ المستحقّة.

كانت بديعة تدفع الضرائب بانتظام معتمدة في ذلك على أنطوان سيدهم، أحد موظفي المحل، وكان يطمئنها على أن الأمور تسير في مجراها الطبيعي. باعت بديعة الكازينو إلى ببا من دون أن تخبر مصلحة الضرائب قبل تاريخ البيع بشهرين لجهلها بذلك، كذلك تجاهل كل من أنطوان سيدهم والمحامي لفت انتباهها إلى ذلك، فدفعت تعويضات الموظفين التي بلغت 7 آلاف جنيه، بعدها قصدت أحد المحامين لتطلعه على ما وصلت إليه، فأخبرها أن مصلحة الضرائب ستعتبر البيع تهرباً وستفرض الأرقام التي تريدها.

أمام هذا الواقع الأليم، سألت بديعة محامياً آخر، فأكد لها ما قاله الأول، ونصحها بالإسراع في بيع ما تستطيع بيعه، عندها قررت العمل بنصيحة المحامي، إلى أن ذهبت إلى الكازينو فاستدعتها ببا عز الدين وأطلعتها على إخطار وصلها من مصلحة الضرائب، بألا تدفع لبديعة أي مبلغ من المال قبل أن تدفع هذه الأخيرة 74 ألف جنيه للمصلحة.

كانت بديعة قد أعلنت عن بيع أثاث منزلها في المزاد العلني، وما إن نشرت الصحف الخبر حتى تراكض الشامتون والفضوليون، فباعت ما لديها من تحف ثمينة بمبلغ ألف وثمانمائة جنيه، وكانت قد اشترتها بثمانية آلاف، ثم أرسلت إلى فتاها صاحب المكتبة ليقف معها في محنتها، فاعتذر عن المجيء إلى مصر بحجة أنه عاد إلى وظيفته، فدهشت بديعة لذلك، وباعت عماراتها الثلاث، هكذا ضاع تعب السنين.

احتفظت بديعة بما معها من مال وجمعت مجوهراتها وقررت السفر إلى لبنان، وفي المطار اكتشفت أنها ممنوعة من مغادرة مصر حتى تسدد ما عليها لمصلحة الضرائب، ولدى عودتها استدعتها النيابة وحققت معها واحتجزتها في إحدى الغرف، ولم تخرج إلا بعدما دفعت ألف جنيه كضمانة، عندها لم يكن أمام بديعة سوى التفكير في الهرب.

وسط هذه الظروف التقت بديعة شاباً أجنبياً، عرض عليها أن يساعدها في الهرب، لقاء مبلغ ألفي جنيه تدفعه للشخص الذي سيهربها من مصر فوافقت، بالفعل جهزت أغراضها وهربت بطائرة خاصة هبطت بالقرب من حي مصر الجديدة، هكذا تركت بديعة أرض مصر الحبيبة ودموعها كشلال أعقبته جداول من البكاء المر، وظلت مصر بسحرها ومرارتها وحزنها وبهائها محفورة في ذاكرتها.

العودة إلى لبنان

في لبنان، كان أول عمل قامت به استرجاعها الجنسية اللبنانية، وتم لها ذلك بمرسوم رقم 3038 بتاريخ 29 سبتمبر (ايلول) عام 1950، إلا أنها ما لبثت أن وقعت في خطأ جديد إذ تزوجت شاباً يصغرها بـ22 عاماً، بينما كانت في الخامسة والخمسين من عمرها، كان مقامراً من الطراز الأول وله صديقة يهودية اتفق معها على ابتزاز أموال بديعة، لم يكد يمرّ على زواجهما شهران حتى طلبت منه الطلاق، فطالبها الشاب بمبلغ 50 ألف ليرة ليطلقها، ثم اقتنع في النهاية بخمسمائة ليرة.

تتابعت أحداث سنوات بديعة الأخيرة وهي في خريف عمرها، فكانت تقضيها بين أوروبا ولبنان، ثم استقرت في منطقة شتورا حيث افتتحت مطعماً، وأقامت في إحدى المزارع سنوات شيخوختها، حتى رحلت عن دنيانا عام 1974.

back to top