في نقد السياسة... أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور

نشر في 20-08-2009
آخر تحديث 20-08-2009 | 00:00
 ياسين الحاج صالح ربما لم يمر وقت نفرت فيه «الانتلجنسيا» العربية من السياسة أكثر من أيامنا هذه. السياسة مخيفة وموردة للمهالك، هذا سبب مهم، لكن السياسة عاهرة لا خلق لها ولا دين، هذا سبب أهم، إعياء العقل أكثر من وهن الإرادة هو جذر الابتعاد عن السياسة. ليس فقط كممارسة بل حتى كتفكير بالشأن العام يرى السياسي ولا يعمى عنه.

الحيرة أكثر حتى من الخوف، والانفعال أكثر من الوعي، سبب الابتعاد عن السياسة. تبدو هذه ساحرة، تجتذب وتقتل، تأسر وتهين، تفتن وتميت. لا نستطيع الابتعاد عنها رغم مرارة القرب منها وقسوته.

وما من مدرك يوحد بين الافتتان والموت في اللغة العربية غير السحر. المسحور مستلب، فاقد السيطرة على نفسه، هو ليس هو. السياسة سحر لأنها تجعلنا غيرنا، تستعبدنا لما يذلنا؛ تفتننا عن أنفسنا؛ غير أن مفهوم الفتنة يحمل في العربية دلالة مزدوجة. الجاذبية الآسرة والتنازع العظيم؛ مثل ذلك ينطبق على مفهوم الأسر. المرأة التي تأسرنا بجاذبيتها هي بمنزلة عدو يحولنا إلى سجناء أو محكومين بالإعدام.

في السياسة في عالمنا العربي تلتقي مدركات السحر والفتنة والأسر. الخوف والانجذاب، الافتتان الشديد والصراع الوحشي، الاقتراب اللذيذ والوقوع المميت. السلطة أو الموت.

لكن يبدو أن في تحررنا من الوهم أو، ينبغي أن نقول، من السحر السياسي شيئا سحريا في الغالب؛ ندير ظهورنا للسياسة بدل أن ننزع غلالاتها السحرية؛ يحصل أن نتحول إلى الثقافة دون نقد السياسة، بل هذا متواتر جدا. السياسة خطأ والثقافة صح. تتحول الثقافة إلى سحر جديد، إلى حل، «الحل». محصلته تحويل الثقافة إلى سياسة. فالسياسة التي لم تنتقد، لم «تموضع» ولم يتحقق الانفصال عنها، تنتقل بكاملها إلى الثقافة. هذا ينطبق على بعض أكثر المثقفين العرب ثقافة وثقافية. ثقافوية بالأحرى، أي تحويل للثقافة إلى سياسة بديلة. من دون ذكر أسماء، هناك مثقفون مكرسون جدا يفعلون ذلك، فيمارسون السياسة في الثقافة، أي الإغراض و«العمل» والحساب وبناء المذهب و«تأليف القلوب» ورعاية العصبة، في مجال ما يفترض أن تعريفه ينفر من الغرض والجدوى والعمل والمذهب والعصبة، وينحاز إلى شرح الصدور ضد تأليف القلوب. شرح الصدور عام، أما تأليف القلوب فخاص. يمكن تعريف الثقافة بمفعولها الشارح للصدور كشرط لشرح العالم أو كوجه آخر له، بل يمكن تعريف المثقف بتجربة انشراح الصدر. انشراح الصدر خبرة ذاتية أساسية، يمتنع دونها شرح أي شيء. الصدور الضيقة الحرجة لا تشرح العالم الواسع، وهذا ما يجعلها، تجربة انشراح الصدر، روح الثقافة هذه جهد مستمر لتوسيع العالم، لبسطه وشرحه والتمدد فيه والتجوال الحر في رحابه.

والتجربة هذه مستمرة، لا تكسب مرة واحدة وينتهي الأمر، إنها «جهاد أكبر»، الجهاد الأكبر الحق، وهي نفسها التجربة التي يبدو لنا أنها نادرة في ثقافتنا المعاصرة، الأمر الذي يجعل الثقافة ميدانا للحرج والضيق، ويلحقها بالسياسة والحرب و«الجهاد الأصغر».

والسياسة تأليف قلوب (بالجمع دوما) من أجل إقامة سلطة. أو تحصين سلطة قائمة بمن يستحسن تأليف قلوبهم: أهل النفوذ أو السلطة أو المال. «الملأ». تأليف القلوب والسلطة صنوان، أما شرح الصدور فيثمر ثقافة، ويتولد عنها. وبالمناسبة، هذا هو الفارق الجوهري بين مرحلتين من تاريخ الدعوة الإسلامية: مرحلة تشرح الصدور وتضع الأوزار التي تنقض الظهور، فتشرح العالم وتبسطه وتيسره؛ ومرحلة تؤلف قلوبا قلما تتألف، فتبني سلطة/سلطات.

تتألف القلوب من أجل قضية، فتتشكل سلطة تحرس القضية من أجل أن تبقى مماثلة لذاتها، تأتلف حولها القلوب، أي من أجل التعبئة. التعبئة تعني تفريغ الناس من قلوبهم الخاصة، ليكونوا قلبا واحدا. ويدا واحدة. في المحصلة سلطة ولا شيء آخر. القضية تزول، فليس التماثل مع الذات الذي تحرسه السلطة غير الموت، موت الفكرة. ألم تكن السلطة العارية هي مآل تأليف القلوب الإسلامي؟ ألم ترد السلطة هذه الدين إلى «قدر» كافل للتماثل والائتلاف، ومانع من الاختلاف؟

هذا غير أن تأليف القلوب «فعل» لازم، يلزم المال أو السلطة التي يجري التألف بهما، ولا يتعدى إلى الفكرة أو القضية. هذه ترتد أداة أو ذريعة لإحراز «الدنيا»، لجلبها إلى الرؤساء على قول أعمى المعرة، أما شرح الصدور فيفتحها، ولا تتشكل عصبة حول المفتوح. ولا سلطة. وامتلاء الصدور المشروحة هو مزيد من الانشراح. فهي لا تقبل التعبئة.

***

تجربة متكررة، قلنا: التحرر من السحر السياسي دون تحرر، تُهجر السياسة دون أن تنتقد، فتمارس السياسة في الثقافة. نقد السياسة يعني تقديم شرح الصدور على تأليف القلوب. يعني ربما قبل ذلك شرح أنفسنا، وبمصطلح عصري نقدها وتفحص ضميرها، «تحليلها نفسيا». لا بالمعنى التقني للتعبير، بل بمفعوله المفترض، التصالح مع الذات، شرحها لنفسها. توسيعها لترتاح لنفسها ومع نفسها. ومع العالم.

ثمة تجربة ممكنة: نترك تأليف القلوب منشرحي الصدور، ولا نرضى بغير «جمعية» قلوب منشرحة، نعترض على السياسة كإجراء صغير متمحور حول السلطة ويغلب أن يكون متناقضا، كي ننفتح على السياسة كمعنى، سياسة شرح العالم. الشرح ليس فعل معرفة سلبيا، بقدر ما هو بسط وإنارة واسترخاء. لا أقول محبة، بل فعل كرم وأريحية. ترحيب. حين الترحيب يعني التوسيع ويعني الاستضافة السخية. لا نرحب بالعالم دون أن تكون أنفسنا فسيحة رحبة، تتسع للعالم. ولا نشرح العالم دون أن تكون صدورنا منشرحة للعالم.

شرح العالم بهذا المعنى فعل تغيير بحد ذاته. العالم المشروح هو عالم مفتوح وكريم. مضياف، عالم لا تحده سلطة، لا ينغلق حول سلطة، لا ينضبط بتجنيد أو تعبئة. المركز المفترض للقلوب المؤلفة، «وحيا» أو «وعيا»، خارج عن كل منها، تصبح قلوبا متماثلة بأن يكف كل منها عن كونه قلبا. أما انشراح الصدر فيلغي فكرة المركز ذاتها. ما يمنع قيام سلطة. انشراح الصدر يعني انفتاحه على العالم وانفتاح العالم عليه. انحلال في العالم وحلول العالم في صدورنا. تتجاوز تجربة الانشراح، لذلك، تقابل الذات والموضوع. الصدر المنشرح للعالم ليس ذاتا، والعالم المشروح ليس موضوعا. ثنائية الذات والموضوع سياسة وعمل، «قهر» للطبيعة، «سيادة» عليها و«تملك» لها على قول ديكارت، و«سيطرة» على العالم. الاستعمار ومشكلات البيئة مدونان سلفا في هذا الأفق.

شأن الانشراح والترحيب مختلف. يحيل المدركين إلى أنسنة العالم و«تعليم» الإنسان، إلى الاتصال بينهما لا إلى الانفصال، إلى ثقافة جديدة، وسياسة جديدة أيضا.

***

نقد السياسة هو هذا: التشكك حيال تأليف القلوب. حيال السلطات والعصبيات والأحزاب والهويات، كل «نحن» معطاة. الامتناع عن التجند. نقض «العضوية» بجميع معاني الكلمة، بما فيها الثقافة العضوية والمثقف العضوي. أما محتواه الموجب فهو الإقبال المنفتح على العالم. السياسة هنا ربما تكون تعاونا بين أنداد. انفلات من أي أطر سياسية تراتبية مغلقة.

بأطر ليس مفتوحة الآن وهنا لن تنفتح لنا أي آفاق. بأدوات السلطة لن نحصل إلا على سلطة تشبه أدواتنا.

* كاتب سوري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top