إسماعيل يس... حكاية رجل حزين (18) تحيا الستّات

نشر في 11-09-2009 | 00:00
آخر تحديث 11-09-2009 | 00:00
شعر إسماعيل ياسين أنه يمثل للمرة الأولى، وأنه نسي كل شيء، وخشي أن يلاحظ المخرج ذلك، لكن من حسن حظه أن المخرج توجو مزراحي اكتشف في الوقت نفسه خطأ في الديكور فأوقف التصوير وطلب إصلاح الخطأ بعد أن ثار ثورة عنيفة على مهندس الديكور.

استغرق الموضوع ما يقرب من 10 دقائق تغلّب إسماعيل خلالها على خوفه ونسي كل شيء إلا المشهد الذي سيمثله، واندمج تماماً فيه، وغاب عن كل ما حوله، وأفاق على صوت توجو مزراحي مهللاً:

- برافو يا اسماعيل برافو.

كانت هذه الكلمة فاتحة خير عليه، وشهادة دخوله بشكل جديد إلى عالم السينما، فقد استدعاه مزراحي بعد انتهائه من تصوير مشاهده ذاك اليوم إلى مكتبه لتهنئته والتعاقد معه بأجر قدره 15 جنيهاً، على فيلم جديد بعد أن تقاضى 12 جنيهاً على مشاركته في {علي بابا والأربعين حرامي}، وطفرت الدموع من عيني ياسين وهو يأخذ الشيك، وتوجه في اليوم التالي مباشرة وصرفه ليشتري بدلة {سموكنغ} من آخر طراز، وظل يحتفظ بها، حتى بعد أن أصبح يملك مثلها العشرات!

كان {علي بابا والأربعين حرامي} بداية ظهور ياسين الحقيقي والقوي على شاشة السينما، فقد حرص مزراحي على توظيف قدرات ياسين في الفيلم، إلى درجة أنه كتب دوره بنفسه، وجعله مرافقاً للفنان علي الكسار في المشاهد التي يظهر فيها، فغنى ياسين ورقص وأدى حركات أصبحت في ما بعد إحدى سماته مثل {الرقص بنصف وسطه الأعلى مع رفع يديه}، كذلك تنبه إلى موضوع كبر فمه، فقرر أن يجعله مادة للسخرية في أعماله، بداية من هذا الفيلم، ليكون أيضاً من {لوازمه} التي يحرص على أن يُذكر بها الآخرين قبل أن يذكروه هم بها.

استغرق تصوير دوره في {علي بابا والأربعين حرامي} أسبوعاً، لكنه ما كاد ينتهي حتى بدأ تصوير {تحيا الستات}، وقبل ياسين العمل فيه على رغم أنه بدأ يخاف من عصبية مزراحي الشديدة، ولحسن الحظ لم يكن المخرج المشهور عصبياً إطلاقاً معه، لأنه أحبه كممثل، بل كان لا يتمالك نفسه من الضحك حين يراه يمثل أحد المشاهد، لذلك لم يسمع ياسين {شتيمة} منه أبداً على رغم أنه كان {يشتم} الجميع وحين كان يخطئ، كان مزراحي يفجر عصبيته بشتم نفسه فيقول:

- أنا مغفل... أنا حمار أنا مش ممكن أفهم حاجة أبدا!

كان ياسين يعرف أن هذا الكلام موجه إليه فيتأثر منه، بل كان يبكي أحياناً، وكان لا بد من أن يبدأ تصوير {تحيا الستات} وشارك معه في الفيلم كل من مديحة يسري وليلى فوزي وأنور وجدي وحسن فايق وبشارة واكيم.

مطاردة غرامية

آنذاك كان ياسين لا يزال جديداً في عالم السينما، ولا تزال صداقاته مع أهلها جديدة، ويجهل الكثير من أسرار الفن، ما جعله يتعرض إلى {مشاكسات} قاسية من بعض الزملاء، لعل أقساها ما حدث من وجدي عندما كانوا يصورون {تحيا الستات}، وكان ذات يوم يعمل معه في الأستوديو حين قال له:

- روح للأستاذ حسن فايق وقله إن {ابن بنته} ينتظره بره الأستوديو وإنه عاوز يروح الجهادية!

ذهب ياسين إلى غرفة فايق وقال له بمنتهى حسن النية:

- يا أستاذ.. {ابن بنتك} مستنيك بره وبيقولك هو عاوز يروح الجهادية.

ووجد ياسين فايق يثور في وجهه ويغضب ويطرده من الغرفة: اطلع بره يا...

راح فايق يصرخ مراراً ويوبخ ياسين أمام إحدى بنات الكورس التي كانت في غرفته. حاول النجم الجديد الدفاع عن نفسه، وتأزمت الأمور وكاد فايق أن يضربه، وهرع وجدي لإنقاذ الموقف أو ياسين من المقلب الذي دبره له، فقد كان يستلطف الفتاة التي كانت تجلس مع فايق في غرفته، التي تعمل كومبارس، وطلب من ياسين أن يقول لحسن ذلك الكلام كي يظهره أمامها رجلاً عجوزاً وأن {ابن ابنته} أصبح في سن التجنيد!

شارك ياسين أيضاً في {الطريق المستقيم} مع يوسف وهبي وفاطمة رشدي وأمينة رزق. آنذاك كان منير مراد الملحن، وشقيق الفنانة ليلى مراد يعمل كمساعد للمخرج مزراحي، وقد أصبح صديقاً لياسين بحكم العمل، وكان شارك في أكثر من فيلم حين تعاقد معه المخرج على تصوير {الطريق المستقيم} وقال منير لياسين:

- إيه ده... دورك في {الطريق المستقيم} صغير جداً. بعد ما تعمل أدوار كبيرة ومهمة في كذا فيلم قبل كده. تاخد الدور الصغير ده؟

- أعمل إيه ما انت عارف الأستاذ توجو.

- يا سيدي الأستاذ توجو مش بعبع... قوله إن الدور صغير يمكن يكبره شويه.

- إنت شايف كده؟

- مفيش غير كده.

استجمع ياسين شجاعته، وذهب إلى مزراحي وحاول الاعتذار له عن الفيلم لأن الدور صغير ولا يليق به بعد أن شارك في بطولة فيلمين، أو أن يعمل على أن يكون الدور أطول، فرد عليه:

- اسمع يا إسماعيل مش مهم في السينما أبداً أن يكون الدور قصير أو طويل، المهم إنه يكون دور كويس، وأنا بقولك إن ده واحد من الأدوار الكويسة جداً، وأنا واثق من إنك ستنجح فيه وإنك ستثبت من جديد إنك فنان كبير وموهوب.

أدى ياسين الدور وكان لشخصية رجل سكي، ونجح فيه كثيراً، وحين أداه صفق له كل من كان يعمل في الأستوديو.

صديق العمر

كان ياسين يُقدم في الأفلام التي شارك فيها قبل {على بابا والأربعين حرامي} باعتباره مؤدياً للمونولوج، إضافة إلى التمثيل، واستطاع خلال فترة وجيزة مواصلة نجاحه، ما دعم مكانته وأضاف إلى رصيده في سوق {الصالات}. لكن تقديمه بصورة جديدة وجيدة في فيلم مزراحي لفت الأنظار إليه كممثل له حضوره القوي على الشاشة، ما جعله مطلوباً في أكثر من مسرح وأكثر من صالة وملهى ليلي، والأهم من ذلك من وجهة نظره، أنه أصبح مطلوباً في السينما، التي قد تغنيه عن {البهدلة} في الصالات والكباريهات!

استطاع ياسين تثبيت قدميه كممثل من خلال {علي بابا والأربعين حرامي}، الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير عند عرضه، وكان ظهوره فيه بمثابة الهدية التي قدمها مزراحي إلى جمهور السينما آنذاك، ما جعل ياسين يعيش نشوة غير عادية بهذا النجاح غير المتوقع، في السينما وإلى جوار أحد أهم نجوم ذلك الزمان علي الكسار.

لكن أهم ما خرج به ياسين من الفيلم، إضافة إلى النجاح، اقتناع المخرج به إلى حد كبير، فضلاً عن نشوء صداقة كبيرة بينهما، وصداقات كونها النجم الصاعد مع بقية أبطال الفيلم، سواء المطرب محمد عبد المطلب، الذي كان ينافسه في الغناء بالفيلم، أو الفنانة الجميلة ليلى فوزي، والأهم من ذلك كله ما اكتشفه من حب وموهبة حقيقية داخل فنان يبدو قاسي الملامح، لكنه طيب القلب، يدعى رياض القصبجي، الذي كان يكبر ياسين بتسع سنوات، وكان عاشقا للتمثيل، غير أن أسباباً عدة كانت وراء تأخره كثيراً، وهذا ما سأله عنه ياسين، وراح يناديه بـ {عم رياض} على رغم أن فارق السن بينهما ليس كبيراً:

- إلا قوللي يا عم رياض... لما انت فنان هايل كده، كنت مختفي فين الفترة اللي فاتت؟

- أبدا موجود بس كل شيء نصيب.

- لا... أقصد ليه مبتشتغلش كتير؟

- النصيب، وبعدين بيني وبينك يمكن يكون العيب من عندي أنا.

- إزاي مش فاهم انت اللي بترفض الشغل.

- لا مش كده. أنا أصلاً موظف.

- أيوه موظف فين يعني؟

- أنا بشتغل كمساري في السكة الحديد. خلاص ارتحت.

- ودي حاجة مزعلاك كده. طب ده انت حظك حلو. موظف محترم والدولة مقدراك. أمال بقى لو كنت دقت الجوع والتشرد ونمت على الرصيف كنت عملت إيه؟!

- تقصد تقول إنك...

- أيوه. محسوبك هو كل اللي أنا قلت عليه دلوقت.

- والله براوة (برافو) عليك يا سمعه.

- سيبك مني أنا وقولي. انت لسه في الوظيفة؟

- ما هو زي ما انت عارف الفن مبيأكلش عيش، وكمان أنا عضو في فرقة السكة الحديد المسرحية، وكمان عضو في أكتر من فرقة، آخرها فرقة {أحمد الشامي} يمكن تسمع عنه، وبعدين بشارك في أدوار كده في السيما زي ما أنت شايف.

- أيوه... أيوه.

- بس يا سيدي آدي كل حكايتي.

بعد كل ما سمعه ياسين من القصبجي، قرر أنه ما إن تتاح أمامه الفرصة في السينما، لن يتخلى عن هذا الرجل في أي فيلم يقدمه، لما يتمتع به من موهبة فطرية رائعة.

مكتشف النجوم

كان ياسين يظن أن اقتناع مزراحي به، سيجعله يستعين به في كل عمل، خصوصاً أن مزراحي كان بدأ ينتشر كمخرج، بعد أن مر بمراحل العمل السينمائي كافة، من كتابة وإخراج وإنتاج ومونتاج، وخاض تجربة التمثيل مرة واحدة، وأصبح أحد أهم مخرجي السينما المصرية آنذاك، وكانت إحدى بطلاته المفضلات فتاة نحيلة القوام جميلة الملامح تدين مثله بالديانة اليهودية، هي المطربة ليلى مراد، ابنة المطرب زكي مراد، وما إن لمعت إلى جانب المطرب محمد عبد الوهاب في {يحيا الحب} عام 1939، حتى التقطها المخرج فوراً، وأعاد اكتشافها وقدّم لها سلسلة أفلام على التوالي.

أعطاها الفرصة في عام 1940 في ثاني أفلامها {ليلة ممطرة} لتقاسم البطولة مع عملاق المسرح آنذاك يوسف وهبي، ثم جاء الفيلم التالي ليكون أول عمل يحمل اسمها {ليلى بنت مدارس}، ثم {ليلى بنت الريف} الذي كان أول تعارف بينها وأنور وجدي، وفي عام 1942 قدمها في {ليلى} المقتبس عن غادة الكاميليا، وعرض الفيلم على مدى 16 أسبوعاً ونجح بشدة.

لا شك في أن مزراحي كان يفكر في استغلال نجاح بطلته في مجال الغناء، فكانت ليلىتظهر في أفلامه باسم {ليلى}، ما لفت نظر ياسين إلى أن يكون اسم الفنان عنوان الفيلم، واستوقفه الموضوع طويلاً إلى درجة أنه أنساه عدم استعانة مزراحي به، لكن صدى النجاح الذي حققه في السينما انعكس سريعاً على المسرح وعلى عمله كمونولوجيست.

جعله هذا النجاح على قائمة المدعوين التي تضم المطرب صالح عبد الحي، وفرقة بديعة مصابني، لإحياء حفلة {مبرة محمد علي} في سراي سمو الأميرة {شويكار} زوجة الملك الراحل فؤاد السابقة، وكتبت مجلة {الصباح} تشيد بهذا الفنان الذي يلمع اسمه يوماً تلو آخر، فقد أحسن في تقديم نفسه أكثر مما أجاد في مونولوغاته التي تحتاج بشكل ظاهر إلى تقوية روح الفكاهة فيها!

بقدر ما أسعد هذا الكلام ياسين أحزنه، فهل أصبحت مونولوغاته في حاجة إلى مراجعة. لاحظ ياسين هذا الأمر فعلاً، إلى درجة أن مساحة وجوده على خشبة المسرح تقلصت، فيما كانت تتاح المساحة لغيره، وكتبت المجلة مجدداُ تنتقد ما يفعله ياسين في عددها الصادر في مايو (أيار) عام 1943 وبعنوان {من هنا وهناك} أن المونولوجيست إسماعيل ياسين يشكو زملاءه وزميلاته من أن الوقت المخصص لإلقاء مونولوغاته أقل كثيراً من الوقت المخصص للراقصات الناشئات اللائي يعملن معه... وأن زميلاً له كتب للمجلة أن إدارة الصالة التي يعمل فيها معذورة في ذلك لأن ياسين لا يجدد في مونولوغاته، وأنها تسمح له بوقت أطول عندما يقدم مونولوغاً جديداً، أو أن يطلب الجمهور منه الإعادة!

العودة إلى الكسار

ترك ياسين الفرقة التي يعمل فيها وقرر التركيز مجدداً في المونولوغ لتفتح السينما له أبوابها مجدداً، وراح يتنقل بين مختلف الفرق، وحتى تلك الجوالة المختلفة التي تجوب أنحاء مصر في الوجهين القبلي والبحري. إذ عمل تارة مع فرقة محمد عبد المطلب، وتارة أخرى مع فرقة محمد الكحلاوين وأخرى عاد فيها إلى فرقة {علي الكسار} التي اعتبرها فاتحة خير عليه لأنها قدمته الى مزراحي.

لم يمر وقت طويل حتى طلبه مزراحي للعمل معه في فيلم جديد يجمع بينه وعلي الكسار بعنوان {نور الدين والبحارة الثلاثة} ويشاركهما هذه المرة المطرب إبراهيم حمودة، وكانت المفاجأة التي أسعدت ياسين أيضاً أنه وجد معه في الفيلم ذلك الفنان طيب القلب قاسي الملامح رياض القصبجي.

نجح الفيلم نجاحاً كبيراً جعل علي الكسار يعرض على ياسين مشاركته في الفرق الاستعراضية المسرحية التي كانت تقدم مسرحية جديدة على أحد مسارح روض الفرج:

- اسمع يا إسماعيل. أنا عايزك تشتغل معايا.

- سلامتك يا أستاذ علي. أمال أنا بشتغل مع مين. مش برضه دي فرقة علي الكسار.

- يا أخي أنا فاهم. انت فاكرني مسطول. أنا عايزك تدخل شريك معايا في الفرقة.

- إيه؟! بتقول إيه؟

- زي ما سمعت كده. بعرض عليك تدخل معايا شريك في المسرحية دي. وأي شغل تعمله الفرقة.

- أيوه، ده شرف كبير وثقة كبيرة منك.. لكن أنا زي ما انت راسي « إل نيا با فلوس»!

- يعني إيه؟

- بالعربي كده مفيش فلوس.

- ما هو أنت هتدخل شريك بأجرك.

- بس يا أستاذ...

- متقولش حاجة... قول موافق.

عرض علي الكسار جعل الدموع تسيل من عيني ياسين، وبدت تلك الفترة سعيدة ومشرقة في حياة الفنان، غير أنه لم يكن يفكر في موضوع الزواج أو الحب مجدداً، فيكفيه ما حدث له في المرتين اللتين أحب وتزوج فيهما.

كان ذلك تفكير ياسين قبل تلك الليلة التي جلس يتناول فيها طعام العشاء في حديقة المسرح قبل صعوده إلى الخشبة، وبينما كان جالساً أقبلت زوجة مدير المسرح أحمد رفعت، وبصحبتها فتاة، بدا من مظهرها أنها وقورة وخجولة، وكان جمالها لافتاً. جلست الاثنتان بجواره بعد أن تبادل ياسين التحية مع زوجة المدير، أما صاحبتها فاكتفت بأن أومأت برأسها إلى ياسين.

بدأ ياسين يختلس النظرات إلى هذه الضيفة التي لم يرها سابقاً، فهي بالتأكيد ليست فنانة، فهو يعرف فنانات البلد. سيطر عليه إحساس غريب، فقد شعر أنها ليست غريبة عنه تماماً، وأنه يعرفها منذ فترة طويلة، أو ربما كان يعرفها وهي طفلة صغيرة أو يعرف واحدة تشبهها. المهم أنه شعر بأنه يعرف هذه الفتاة، ثم أدرك أن كل ما في الأمر أنه كان يبحث في خياله عن واحدة مثلها، أو كما يقال «فتاة الأحلام»، وها هي أمامه وجهاً لوجه.

أحاسيس جديدة وغريبة شعر بهاياسين، فلم تكن المرة الأولى التي يتعرف فيها إلى فتاة أو يجلس معها، كما لم تكن المرة الأولى التي يفكر فيها بامرأة، فقد سبق له الزواج والحب مرتين، وإن كان أسقطهما من حساباته بل ومن حياته تماماً، لكن ما الذي حدث هذه المرة؟!

back to top