هنا القاهرة!


نشر في 08-07-2009
آخر تحديث 08-07-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي هنا القاهرة العامرة، هنا الضاهر، وهنا أيضا الظاهرة، هنا العالم نيام، وهنا أيضا عالم البشر الساهرة، الشيء ونقيضه متراص إلى جوار بعضه، هنا اللصوص يفترشون الأرض في ورع يتمسحون بضريح الطاهرة، يلهجون مدد يا أم هاشم، يدعون للحكومة الباطنية، وقلوبهم مع الحكومة الظاهرة، هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

لا تظنن السوء بي، فالبلد يسير بآليات السوء، فالقاهرة ليست مشتقة من القهر لا تأخذوا الأمر بظاهره، لا تقرأوا مقالي من شواشيه أو حواشيه، فهنا بلد المعز، بلد العز. هنا التراب الطاهر، هنا المسخرة والفشخرة. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا هُزمنا فقيل لنا نكسة، وهنا انتصرنا واسترجعنا أرضنا، وقيل لنا وكسة، هنا انقلبت الموازين، هنا يسود التافه، ويهمش الرزين، هنا على الشاشات يسود الطنين، وإلى وطن ضاعت ملامحه يعذبنا الحنين، هنا يكرم النصاب، ويهان المخلصون، هنا نفتح الأبواب للكذاب ونوصده في وجه الأمين. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا جيوش كذابي الزفة تملأ الدنيا صياحاً وصخباً، ينامون مع البغى، ويدَّعون العفة، هنا دارت الرؤوس، واندارت الدفة، هنا أناس تسير في الطرقات من دون معرفة، هنا الزعيق باسم الوطن، ممن تورطوا في الوحل وفي العفن، هنا أناس عرايا، حتى في لحظات الموت لا يجدون الكفن. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا الكوبري هنا الأنفاق، هنا الكذب وهنا النفاق، وهنا الغلبان يقرأ طالعه في قاع الفنجان، هنا البذخ السوقي، وهنا موائد الرحمن، هنا يأكل الشيطان ويُلفظ الإنسان، هنا يبقى كل شيء ذا قيمة، عدا الإنسان. هنا ملياردير في مرسيدس، هنا غلبان، هنا حفيان، الكل متجاور، ومجاور، هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا التجريف والتحريف، هنا تجريف الأراضي الخصبة في الرؤوس وبالفؤوس، هنا تجريف وطن، هنا تفوح رائحة عطن، هنا أمور تسمم البدن. هنا يسيطر المحافظ، وهنا تُسرق «المحَافظ»، هنا يموت النقد، وهنا يُزْهر على الطرقات الحقد، هنا انفرط العقد. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا وطن تمكنت البلطجة من صرته وبؤرته، هنا صحافة خائفة، وبضاعة تالفة، إما بلطجة بالصنج وإما بلطجة بالغنج، وادعاءات كاذبة عن «سبارتاكوس» وعن ثورة الزنج. تتعالى الصيحات بحب مصر، في الظهر وفي العصر، وذات الأصوات الفاجرة تسرق اللقمة من أفواه فاغرة، وبين وطن يباع على قارعة الطريق، مرة باسم الدين ومرة باسم الملحدين ولا الضالين، ومرة ضد التطبيع من أجل التطويع، وسوس الخراب بدأ يدب في بلد كانت عامرة. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا سائل، هنا مسؤول، هنا مشكلة السائل تبحث عن حلول، يجيبه المسؤول في الظلمات على طريقة «ماما كريمة» في الإعلانات، ليست لدينا حلول، لكن الحل في المحلول. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا الخوف تمكن من الجوف، هنا لا يسود النوع هنا يسود الكم يا ولد العم، هنا فساد يزكم الأنوف، لكن الناس تدَّعي أنها فقدت حاسة الشم، هنا انسكب الحبر وانكسر القلم، هنا مات الأمل وزاد الألم. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا نفدي كل شيء بالروح والدم، من الأبطال إلى الأوهام إلى الغنم، هنا الوطنية الزائفة نغم، هنا يكذب الناس طوال اليوم والنهار على الشاشات وعلى صفحات الجرائد، لا كسوف ولا ندم، هنا حالة من العدم، هنا تسود النفوس الخربة، وتهرب القلوب العامرة. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا يسير الناس خيالات كالنيام، لا قعود ولا قيام، هنا نرى رغد العيش في المنام، هنا الزحام، هنا تمشي وتمشي، من أول القُطر إلى آخره فلا ترى إلا قفراً، في الفكرة والخضرة، هنا تنتهي النضرة، هنا يمكنك أن تودع العالم، وهنا تقول على الدنيا السلام. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هنا ضاع الأمل، هنا فقدنا قيمة العمل، هنا تُرص الجمل في مقالات وديباجات ولا تقول شيئاً سوى التسبيح بحمد مَن لا يجب أن يحمد، هنا هاجر المواطن من دولة بدت له وكأنها لا ناقة له فيها ولا جمل. هنا الأمر اكتمل. هنا أصبح الخروج كما فعل موسى عملاً ثورياً، فالبقاء في هذا الجو أصاب الناس بالملل. هنا الظاهرة، هنا القاهرة.

هذا مقال كتبته قبل أول سفر لي خارج مصر عام 1985 إلى واشنطن لأول مرة، في لحظة وددت لو أنساها، لكنها بقيت معي، مقال كتبته منذ أكثر من ربع قرن، رأيت أنه يصلح لهذه الأيام أيضاً. يومها كنت في الثالثة والعشرين من عمري، حائراً في أمري، لم أحاول تجديده إلا قليلاً، هكذا كنت وهكذا كنا، ومشيت في الزمان والمكان، وبقيت القاهرة كما هي، القاهرة، الباطن من الأمر والظاهرة.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS 

back to top