شركات

نشر في 06-08-2009
آخر تحديث 06-08-2009 | 00:00
 محمد سليمان في العصور الوسطى وحتى نهايات القرن التاسع عشر انشغل الناس في معظم أنحاء العالم بالكيمياء، وهاموا بها وأسس بعضهم معامل في المنازل لإجراء التجارب العلمية، وكان تحويل التراب أو الرمل إلى ذهب هو الحلم الأكبر الذي كد الجميع من أجل تحقيقه. ومن الطريف أن جيران الشاعر الإنكليزي الشهير شيللي قد شكوه أكثر من مرة إلى السلطات بسبب الضجيج والانفجارات الصادرة من معمله ثم طاردوه في النهاية وأجبروه على الفرار من منزله. ولم ينجح أحد هؤلاء الكادين الحالمين بالثراء في تحويل غرام واحد من التراب إلى ذهب.

لكن حكومتنا المصرية الذكية نجحت دون كيمياء أو معامل أو إبداع أو تخطيط في تحقيق هذا الحلم القديم عندما قررت المساهمة في حل مشكلة الإسكان أو الحد من تفاقمها واتساعها بتخصيص وبيع الصحراء في المدن الجديدة وحولها للمواطنين الباحثين عن المأوى وللشبان المقبلين على الزواج بأسعار شيطانية تجاوزت في بعض المناطق ألفي جنيه للمتر الواحد (370 دولاراً أميركياً).

ويبدو أن حكومتنا قد اكتشفت في الفترة الأخيرة أن كل مواطنيها قد باتوا أثرياء وأن محدود الدخل هو في الواقع مليونير صغير قد يكون عاجزا عن شراء طيارة خاصة أو يخت يتجول به في قاع أو أعالي البحار لكنه في كل الأحوال قادر على شراء عدة أمتار في الصحراء بربع أو نصف مليون جنيه لبناء منزله.

في الماضي كان السياسيون مشغولين ببناء مساكن شعبية لمحدودي الدخل من العمال والموظفين وأبناء الطبقة الوسطى وانتشرت من ثم في القاهرة والمدن الآخرى أحياء ومناطق سكنية شعبية تحمل اسم عبد الناصر «مساكن ناصر– مدينة ناصر– منشية ناصر- إلخ» وفي زمن السادات سعت الدولة إلى مواجهة الانفجار السكاني ببناء مدن جديدة في الصحراء حول القاهرة وقررت وزارة الإسكان في ذلك الوقت بيع الأراضي للمواطنين بأسعار رمزية تغطي فقط تكاليف مد المرافق إليها، ورأت من ثم بيع المتر من هذه الأراضي مقابل جنيه واحد ثم بنصف الجنيه بعد تدخل السادات وقراره بضرورة تحمل الدولة بعض الأعباء لمساعدة المواطنين وتشجيعهم على البناء وتعمير الصحراء.

لكننا الآن في عصر رجال الأعمال وحكومتهم الذكية والمهووسة بتحويل التراب إلى ذهب وبيع كل شيء ومساندة القادر وتشجيع الثري وصاحب النفوذ. لذلك اختفى الإسكان الشعبي والمتوسط وبرزت الأبراج والمنتجعات السياحية ومشاريع الإسكان الفاخر، وساهمت الدولة الباحثة عن الأرباح وغنائم السوق في تعقيد مشكلة الإسكان، عندما باعت مصانع الإسمنت والحديد وساهمت في مضاعفة تكاليف البناء وأسعار العقارات، وعندما انشغلت ككل التجار بالأرباح والغنائم على حساب أمن المجتمع وسلامته، والمثير أن الاتجار والبحث عن الربح قد صار هدف كل الوزارات والهيئات، فقد نشرت الصحف المصرية أن وزارة الري تفكر في تقنين وبيع مياه النيل للمواطنين، وانشغلت وزارة الأوقاف ببناء العمارات وبيع الشقق، ووزارة البيئة بفرض وتحصيل الغرامات على ملوثي البيئة، ووزارة التعليم العالي بالمتاجرة في التعليم وفتح كل الأبواب للجامعات الخاصة والأهلية ثم بقرارها الصادر في الأيام الأخيرة بقبول طلاب الثانوية العامة الحاصلين فقط على 50% ببرامج التعليم المفتوح مقابل رسوم مرتفعة لا يستطيع سوى الأثرياء والقادرين دفعها، وهو القرار الذي أغضب الشارع وأثار انتقادات واسعة ومطالب برلمانية بعقد اجتماع عاجل للجنة التعليم من أجل مناقشته وبحث الآثار المترتبة عليه، خصوصا أن القرار يتيح للطالب الثري فرصة الالتحاق ببعض كليات القمة كالإعلام رغم تدني درجاته ومستواه العلمي ويحرم المتفوقين الحاصلين على أكثر من 90% بسبب عجزهم عن شراء الفرصة نفسها.

هذه السياسات حولت الحكومة في السنوات الأخيرة إلى شركة قابضة والوزارات إلى شركات تتنافس وتسعى من أجل اقتناص الأرباح وغنائم الأسواق وتتاجر بكل شيء التراب والماء، الصحة، التعليم... إلخ.

ويزهو البعض بنجاحه في جمع المليارات وتحويل تراب الصحراء إلى ذهب ونسي رجال الأعمال تراجع التعليم والانحدار الثقافي العام والبطالة والشارع المكتظ بالاحتقانات والاحتجاجات، ونسوا استشراء أزمة الإسكان في الأعوام الأخيرة التي أدت إلى اتساع العشوائيات وظاهرة أطفال الشوارع وسكان المقابر، ونسوا أيضا أن يخططوا للمستقبل، وأن يفكروا في 25 مليون طفل «أكثر من 32% من المصريين تحت سن 15 سنة» وأكثر من عشرة ملايين من الشبان وكل هؤلاء بحاجة إلى المسكن والرعاية والتعليم وفرص العمل، وهم في كل الأحوال لن يسامحوا غداً من تجاهلهم.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top