موراكامي وعالمه السحري


نشر في 10-07-2009
آخر تحديث 10-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان قبل صدورها سجلت الرواية الجديدة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي مبيعات كبيرة. الرواية تحمل عنوان «1984» وتتكون من جزأين، وقد قام عشرات الآلاف من القراء المعجبين بأدب موراكامي بحجز نسخهم من الرواية التي تحمل العنوان نفسه لرواية شهيرة لجورج أورويل.

ويعد موراكامي، المولود عام 1949، أشهر الروائيين اليابانيين المعاصرين، فرواياته تتصدر دائماً قوائم الروايات الأكثر مبيعاً ليس في اليابان فقط، بل في العديد من دول العالم، وتترجمها وتنشرها دور النشر العالمية الكبرى. وقد فاز موراكامي قبل سنوات بجائزة البوكر، وهو أحد المرشحين الكبار لجائزة نوبل.

التسلية الرفيعة هي على ما أظن سبب إقبال القراء على أعمال موراكامي. وهي تسلية تشحذ وعي القارئ وتمتعه وتدفعه إلى تأمل ذاته وأحداث عالمه، ويجسدها الانتقال الدائم من الخيالي إلى الواقعي وسلاسة السرد والالتصاق بهموم الإنسان المعاصر وبالتوظيف الماهر للتجربة الثقافية، ومن ثم أسر القارئ بعالم غرائبي سحري تتكلم فيه القطط، وتمطر سماؤه سمكاً، وتساهم في بنائه وتفجير سحريته الموسيقى والأدب والفلسفة والتاريخ وحكايات ألف ليلة وليلة، لكن ذلك لا يعني خلو أعمال موراكامي من قضايا أساسية تشغله وتلح عليه مُشكلة محور الكثير من رواياته، وفي مقدمة هذه القضايا غياب العلاقات الحميمة، خصوصاً داخل الأسرة ومن ثم بروز التشظي والضياع والتفسخ الأسري في أكثر من رواية للكاتب.

ففي روايته الشهيرة «كافكا على الشاطئ»، التي ترجمتها إيمان حرزالله وصدرت في بيروت عن داري «كلمة» و»المركز الثقافي العربي» عام 2007، يستهل مواركامي روايته بتقديم بطلها «كافكا»، وهو صبي في الخامسة عشرة من عمره، فرت أمه من المنزل، وهو في الرابعة من عمره، مصطحبة معها أخته المتبناة، وتاركة الطفل مع أب لا يشعر بوجوده، «لفترة طويلة بقينا أنا وأبي نتجنب رؤية بعضنا، مع أننا نعيش تحت سقف واحد، لكن نظامنا اليومي مختلف تماماً، فهو يقضي معظم وقته في محترفه، وأنا أفعل كل ما بوسعي لكي أتجنب رؤيته».

مع غياب الأم والأب النحات المشغول بإعداد تماثيله، يدفع هذا التفسخ الصبي إلى ترك مدرسته والفرار من منزله، بحثاً عن أمه وأخته وعلاقات حميمة تحميه وترسخ وجوده: «أفكر في منزلي هناك في طوكيو وفي أبي، ما كان شعوره حين اكتشف أمر اختفائي؟ أتراه ارتاح أم ارتبك؟ أراهن أنه لم يلحظ غيابي أصلاً».

في رحلة بحثه العبثية يحدق الصبي في وجوه النساء باحثاً عن أم لا يعرف شكلها أو سنها الحقيقي، ولم تترك في ذاكرته سوى رائحتها وملمسها، «ألن يكون رائعاً لو كانت هذه المرأة أمي؟ هذا ما أفكر فيه كلما صادفت سيدة جميلة في منتصف العمر». يواصل الصبي في الرواية بحثه العبثي وفراره من الوحشية، مدعيا أنه في الثامنة عشرة من عمره لكيلا يعيده رجال الشرطة إلى منزله، وفي هذه الرحلة يمتزج الحلم بالواقع وتتجلى فاعلية الخيال، خصوصاً أن الرواية تجسد رحلة أخرى موازية لرجل عجوز فقد في الحرب العالمية نصف ظله وعلاقاته الحميمة بأفراد عائلته وقدرته على القراءة والكتابة، وانطلق يكلم القطط ويبحث عن حجر سحري قادر على تغيير المصائر.

هذا الهم نفسه هو محور رواية أخرى لموراكامي هي «سبوتنيك الحبيبة»، التي ترجمها صلاح صلاح، وأصدرها في الدار البيضاء «المركز الثقافي العربي» عام 2007. فبطلة الرواية «سوماير» فتاة في التاسعة عشرة من عمرها فقدت مثل «كافكا» أمها وهي طفلة في الثالثة من عمرها، وعاشت مع الأب طبيب الأسنان الوسيم المشغول فقط بعيادته ومرضاه، وهي أيضا مثل كافكا لم يبق لها من ذكرى أمها سوى رائحة بشرتها «لم تكن سوماير قد بلغت الثالثة عندما توفيت والدتها، ولم يبق لها من هذه الأم سوى ذكرى غائمة لرائحة بشرتها وصورتين واحدة التقطت في زفافها والأخرى بعد ولادة سوماير مباشرة. كانت والدة سوماير... لنقل ذلك بلطف شخصية قابلة للنسيان تماماً».

وعبثا تحاول الفتاة ترسيخ معرفتها بأمها من حكايا والدها المهموم فقط بذاته ونجاحاته، والذي لا يتذكر سوى أن الأم «كانت جيدة في تذكر الأشياء، وكان خط يدها جميلا»، وكما ترك كافكا منزله ومدرسته تترك سوماير منزل الأسرة والجامعة لتصبح كاتبة تقاوم بالكتابة الوحشة والضياع، وتسعى بها إلى اقتناص التعاطف وترسيخ وجودها، لكنها كما جاء في الرواية «كتبت بدايات لبعض الأعمال ونهايات لأعمال أخرى، ولم تكتب قط شيئا ببداية ونهاية».

غياب الأم في الروايتين ولامبالاة الأب أسسا لانهيار العائلة- مستودع العلاقات الحميمة- واختفائها. وموراكامي ببساطة وسلاسة يرصد هذا الاختفاء بتقنية فنية مبهرة تشحذ وعي القارئ وتمتعه.

*كاتب وشاعر مصري 

back to top