البصيري و الهدف الذهبي

نشر في 09-08-2009
آخر تحديث 09-08-2009 | 00:01
 سعود راشد العنزي أُشفق بشكل عام على كل مَن يقبل منصباً وزارياً، وأخص بالشفقة أولئك الذين يتولون وزارات خدمات، وللشفقة أسبابها؛ فلا أحد منهم يعلم مدة بقائه في المنصب قياساً على مَن سبقوه، وفي الوقت الذي يبدأ بمعرفة أولويات الإصلاح في وزارته يكون وقته قد انتهى وبدأ حالة تسيير العاجل من الأمور، وهكذا بقيت ملفات خطيرة ومهمة في أغلب الوزارات أسيرة لهذه الحالة الخاصة.

ولكي يكون لشفقتي معنى وفائدة فسأخص أحد الوزراء بنصائح حول ما أراه مهماً في وزارته، وسأختار الدكتور محمد البصيري، لا لشيء إلا لأني أحد الذين كتبوا كثيراً عن مجالات إصلاح قطاع الاتصالات، ولم يتسنَّ لأحد من الوزراء تنفيذ شيء منها.

أول هذه الإصلاحات هو إنشاء هيئة تنظيم الاتصالات، ثم فك التشابك بينها وبين الوزارة والشركات المقدمة لخدمات الاتصال، وثانيها هو أمر يستدعي إجراءً سريعاً لا ينتظر بالضرورة إنشاء الهيئة، هو ضبط «بورصة» الاتصالات الدولية، والثالث، هو تمكين شركات الاتصال من توفير خدمة «ملكية رقم الهاتف النقال» أو ما يسمى Number Portability.

سأركز أكثر في شرح أهمية ومواصفات هيئة تنظيم الاتصالات، لأن وجودها بشكل سليم وصحيح سيكون مدخلاً لبقية الإصلاحات، وسأتناول بقية الموضوعات في مقالات لاحقة.

أولاً، يجب أن تكون الهيئة مستقلة عن الوزارة، ويمثلها الوزير أمام مجلسي الأمة والوزراء، كما يفعل وزير المالية مع البنك المركزي، أي أن هذه الهيئة يجب أن يتوافر لها كل مقومات الاستقلالية عن الوزارة، بل حتى عن السطوة المباشرة لمجلس الوزراء، وأن يعيَّن عليها محافظ لمدة لا تقل عن خمس سنوات، له صلاحيات تنفيذية فنية واضحة، على أن يكون بعيداً عن أي من الخدمات التي تنظمها وتشرف عليها هذه الهيئة، وهذه الشروط يجب أن تنطبق أيضاً على أعضاء مجلس محافظي الهيئة.

أما ميزانية الهيئة فيجب أن تكون مستقلة عن وزارة المواصلات، لكنها تخضع لرقابة ديوان المحاسبة ويتم جمعها من الرسوم والغرامات التي تدفعها شركات الاتصال بجميع أنواعه.

ولا يمكن للهيئة أن تقوم بدورها إلا إذا نظمت العلاقة بينها وبين الوزارة وتخلّت الأخيرة عن كثير من أدوارها التي تولتها على مدى عقود عملها، فدور الوزارة بعد إنشاء الهيئة يجب أن يتحول إلى وضع السياسات وترجمة التشريعات والقوانين على شكل سياسات Policies خاصة بهذا القطاع، بينما تقوم الهيئة بتنفيذ تلك السياسات بعد تحويلها إلى لوائح ونظم وقرارات تطبقها على مقدمي خدمات الاتصال وتحاسب مَن يخالفها.

وهذا يعني أن على الوزارة أن تتخلى عن دورها في تقديم الخدمات (الهواتف المنزلية والدولية والبرقيات والبريد وتحديد الترددات لمستخدميها)، كي لا تختلط صلاحياتها بين مَن يضع السياسات ومَن يقدم الخدمة، فتكون في الأولى أعلى من الهيئة، وفي الثانية خاضعة لرقابتها!

ويشمل عمل الهيئة تنظيم كل الخدمات المرتبطة بالاتصالات مثل الهواتف الأرضية والنقالة، المحلية منها والدولية، والإنترنت، واللاسلكي، والبرقيات، والبريد والطرود، وكذلك الترددات بكل أنواعها التي تتقاسمها الآن وزارتا الإعلام والمواصلات.

والهيئة هي التي تمنح رخص العمل للشركات المقدمة للخدمات، وهي التي تراقبها وتوقع العقوبات على ما يخالف اللوائح منها، وهي المخوّلة بسحب الرخص تطبيقاً لسياساتها أيضاً.

أعلم جيداً أن لدى الوزير أطناناً من الأوراق ومشاريع القرارات والملفات الأخرى؛ كالخطوط الكويتية، والموانئ، وغيرهما من بلاوي هذا القطاع، لكنني على يقين أن التركيز على الإصلاح الهيكلي سيجعل الإصلاحات الجزئية أسهل تنفيذاً ومراقبة ومتابعة، وأعلم أيضاً أن هناك في الوزارة مَن لا يرغب في مثل هذه الإصلاحات لأنها تغيِّر أمراً واقعاً اعتاده هؤلاء وليس في واردهم تغييره، لما يمكن أن ينتج عنه من تقليص للصلاحيات المتداخلة، فالوزارة في وضعها هذا هي التي تضع السياسات، وهي التي تصدر الرخص، وهي التي تقدم الخدمات، وهي المراقبة على نفسها وعلى غيرها، بمعنى آخر هي حلاق الفريج سابقاً فهو حلّاق ومطهّر وحجّام، وقد يبادر إلى قلع ضرس خرب إن طُلب منه ذلك.

فهل يفعلها البصيري قبل صافرة الحَكَم؟... فالجميع يلعبون في الوقت الإضافي وبانتظار الهدف الذهبي لإنهاء المباراة!

back to top