هل يصوغ أوباما مشروعا ليبراليا ملهما؟

نشر في 26-10-2008
آخر تحديث 26-10-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد لو دخل أوباما البيت الأبيض سيعود الفضل إلى طائفة طويلة من العوامل منها تمتعه بـ«الكاريزما» والقدرة الخطابية العالية والمهارة التواصلية الفذة التي أظهرها خلال أكثر من عام من الحملات الانتخابية فضلا عن كثير من الحظ.

الحظ أمر لا شك فيه. فهو أول إفريقي يدخل البيت الأبيض في بلد يعرف عنه التعصب العرقي. والطريف أنه أكثر من جمع تبرعات مالية مما جعله في وضع ممتاز سواء بالمقارنة مع هيلاري أو مع جون ماكين. ومن حسن حظه أيضا أن خصمه رجل طاعن في السن بالمقارنة بجاذبية الشباب في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ الأميركي.

وحظه يظهر قبل أي شيء في أنه ارتفع على أكتاف حركة الشباب الأميركي المناهض للحرب وللعولمة معا. وتتوزع حركة الشباب بين اليسار والليبراليين التقدميين. ولكن ما إن أصبح أوباما مرشحا صاعدا حتى راهنت عليه «المؤسسة» أي دائرة القوى والفعاليات والشخصيات المؤثرة في السياسة والإعلام والاقتصاد والتي تصنع الساسة وتضعهم في مواقعهم بنهاية المطاف.

- من سحر «الكاريزما» إلى قيود السياسة الأميركية

سحر الحظ وغموضه يكمن في أنه لا يمكن التنبؤ به. وان حمل الحظ أوباما إلى المكتب البيضاوي فلن يمكنه الاعتماد عليه وحده. فهو أولا يواجه تركة ثقيلة منها الحرب في العراق وأفغانستان, ومنها أيضا الانهيار الذي يواجه النظام المالي الأميركي والعالمي ومنها العلامات الكثيرة لدخول الاقتصاد الأميركي والعالمي موجه انكماشية شديدة ومنها التمزقات الحادة في المجتمع الأميركي والتي تكاد تقسمه إلى مجتمعين متناقضين تمام التناقض من حيث منظومات القيم المتصادمة. ومن ناحية ثانية فعليه أن يعالج هذه التركة ولديه موارد أقل كثيرا بعد أن ورطته إدارة بوش في خطة زائفة لمعالجة انهيار النظام المالي تتكلف 700 مليار دولار إضافة إلى أكثر من 100 مليار هى التقدير الرسمي لتكلفة الحرب في العراق ونحو ربع هذا المبلغ تكلفة الحرب في أفغانستان سنويا. ويعني ذلك أن أقل قليلا من تريليون دولار ستنفق فوق الميزانية الاعتيادية للحكومة الفدرالية في غضون العام المقبل وحده. وتصل بعض التقديرات بهذه التكلفة في الحقيقة إلى 2500- 3000 مليار دولار. ويعني ذلك أن أوباما سوف يجد نفسه مقيدا بشدة عندما يبدأ في تخصيص موازنات لتحقيق ما يريده من حلول حقيقية. والواقع أن إيجاد التمويل الكافي لخطط إصلاح الاقتصاد الحقيقي، وهو جوهر الأزمة، لن تكون أسوأ المشاكل وأصعبها بل قد تكون أقلها شدة وإن كانت شديدة بذاتها.

- من الوعود المتفرقة إلى مشروع فكري ملهم

ورأيي أنه لو عمل أوباما بالطريقة التقليدية فسوف يواجه فشلا كبيرا. ولا شك أن المؤسسة تريده أن يعمل بالطريقة التقليدية لأن جوهر السياسات الأميركية هي مبادلات مصالح. ويبدأ كل شيء وينتهي بالسؤال: من يحصل على ماذا وأين ومتى ولقاء أي شيء؟ وفي الوقت نفسه، فمبادلات المصالح حتمية... ولكنها في الوقت نفسه أهدرت قدرة الولايات المتحدة على تجديد هياكلها الإنتاجية ومرافقها الأساسية وعطلت تقدمها في مجالات الصحة والتعليم والأمن الداخلي والدولي فضلا عن أنها تسببت في العلل المزمنة للاقتصاد الأميركي، وخصوصا المديونية الكبيرة وعجز الميزان التجاري والموازنة العامة وضعف الدولار.

- فكيف يواجه أوباما هذه الاشكالية؟

أحب أن أدخل مباشرة في الموضوع لأني لا أرى حلا تقليديا يتوزع على فنون المساومات والمفاوضات التوزيعية الأميركية، بل ولا أرى حلا من داخل أميركا ذاتها.

والمقاربة الوحيدة الممكنة للأزمة هي طرح مشروع اقتصادي واجتماعي عالمي يتم صياغته على قاعدة فكرية يمكن تسميتها بالليبرالية التقدمية. ونعني بهذا المصطلح إحداث تعديلات أساسية على الطريقة التي يعمل بها النظامان الرأسمالي والديمقراطي الليبرالي بما يسمح بعلاج مشكلات الفقر والتهميش علاجا جذريا ويطلق الطاقات الحقيقة للاقتصاد والمجتمع.

والواقع أن ثمة إجماعا عالميا على ثلاث نقاط رئيسية في مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية والعالمية وجميعها يشكل أعمدة أساسية لمشروع ليبرالي تقدمي وعالمي حقا:

أولا: هناك اتفاق عام على ضرورة إعادة تعريف الرأسمالية المشروعة. وببساطة يطرح مشروع الليبرالية التقدمية فكرة إعادة فرض القيود العقلانية على أداء الاقتصاد الرأسمالي والتأكيد على المصالح الجماعية للمجتمع الوطني والعالمي بالمقارنة بالمصالح الفردية التي شكلت الأساس الفكري للمذهب الليبرالي التقليدي. ومع ذلك فالقيود لا تنتج نموا بل التعاون على المستويين الوطني والعالمي. والمشكلة الحقيقية في الاقتصاد العالمي هي الحاجة إلى إنتاج النمو وبالذات من خلال تنمية الإنتاجية والاستثمار الموسع في المرافق والبنى الأساسية. والبديل الذي يقترحه الليبراليون التقدميون هو الاستثمار في مشروع كبير ينمي الاقتصاد العالمي ويسمح بمشاركة القوى الاقتصادية الدولية كافة. وكان الاقتراح الجاهز فعلا والذي تخدمه دراسات كثيرة هو الاستثمار في إعادة بناء طريق الحرير الذي كان السبب وراء انبثاق عصر النهضة وكان مصدر ثراء أوروبا الجنوبية والشرق الأوسط في العصور الوسطى المتقدمة.

ولكني شخصيأ اعتقد أن إحياء طريق الحرير لا يقضي على أشد صور الفقر ولا يتيح امكانات التوسع نفسها في الاقتصاد العالمي مثلما هو الحال مع مشروع بديل هو إعادة فتح إفريقيا اقتصاديا. ويشمل فتح إفريقيا اقتصاديا بناء شبكات السكك الحديدية من كيب تاون حتى القاهرة ومن داكار حتى الموانئ الإفريقية على البحر الأحمر. ويشمل هذا المشروع أيضا تصنيع إفريقيا انطلاقا من إتاحة التكنولوجيات الضرورية لتطور التعدين وتصدير المواد المعدنية مصنعة أو نصف مصنعة. ويرتبط بذلك أيضا سياسة شاملة لفتح الحدود بين الدول الإفريقية. ويؤدي مثل هذا المشروع إلى الأثر المطلوب وهو توفير قوة دفع كبيرة جدا لازدهار الاقتصاد العالمي انطلاقا من موارد قائمة فعلا متاحة للصين واليابان والدول العربية المنتجة للنفط فضلا عن السيولة الهائلة الحائرة في أميركا وأوروبا والتي كانت حركاتها الفوضوية سببا لأزمات كثيرة.

كما يحقق هذا المشروع مزايا كبيرة للاقتصاد الأميركي باعتباره أكبر مورد للتكنولوجيا في العالم. ويمكن بالطبع الربط بين الاستثمار في البنية الأساسية الأميركية والإفريقية.

وثانيا: جوهر الليبرالية التقدمية هو إعادة التوزيع بصورة تستأصل الفقر من الناحيتين الاقتصادية والثقافية وتعيد الأمل إلى الفقراء وتدمجهم في مجتمع يقوم على التكافل. غير أن الليبرالية التقدمية لا تعني بالضرورة إعادة إنتاج أو توسيع دولة الرفاه التي اخترعها روزفلت في أميركا مستفيدا بالطبع من تجربة حزب العمال البريطاني وتجارب الاشتراكيين الديمقراطيين في شمال أوروبا قبله. فالواقع أن هناك نوعا من الإجماع على أن حل مشكلة الفقر يجب أن يتم لا عن طريق العطايا والتحويلات المباشرة، وإنما من خلال صياغات إنتاجية وخلاقة مثل التدريب والحق في العمل وآليات العمل الجماعي.

ومن ناحية ثالثة، هناك عملية إعادة بناء النظام المالي العالمي من جديد تماما. ويستحيل بالطبع بناء مثل هذا النظام المالي من دون إعادة هيكلة أو تعريف النظام التجاري الدولي وتهذيب العولمة بجوانبها المختلفة.

العولمة التي يرفضها الأميركيون هي تلك التي تفرض تراجع الصناعة في أميركا وتدفع الاقتصاد إلى قبضة البنوك وقطاع الخدمات عموما. وهذا هو أيضا ما يرفضه أكثر الاقتصاديين الوطنيين في معظم أنحاء العالم الثالث. والمشروع الليبرالي التقدمي للتجارة والتمويل على مستوى عالمي لن يقضي على التجارة الحرة، ولكنه يوفر قاعدة تعزز الإنتاج والإنتاجية في بلاد العالم المشاركة المختلفة ويدفع إلى توازن المصالح.

والمهم في هذا الإطار هو أن يجد أوباما صياغة جديدة لسياسات بديلة لا تقتصر على أميركا، وإنما تمتد للعالم كله.

السؤال هو ما إذا كان لدى أوباما قاعدة اجتماعية وسياسية كافية لطرح هذا المشروع الفكري العالمي الملهم أم لا؟!

*نائب مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية

back to top