في أمّة السجن

نشر في 15-05-2009
آخر تحديث 15-05-2009 | 00:00
 رزان زيتونة لا يفترض في «مجتمع» السجن أن يكون صورة مصغرة عن المجتمع الكبير الذي انبثق عنه. الأصل أنه يناقض هذا المجتمع الأخير في كل شيء تقريبا، القيد على الحرية التي هي حق كل فرد فيه، والحد من أهلية الفرد التي تتيح له في الوضع الطبيعي القيام بما يرغب من معاملات طالما أنه بالغ عاقل ويتصرف تحت سقف القانون، والتجريد من الحقوق المدنية والسياسية التي تتيح له في الأصل أن يكون ناخبا أو مرشحا أو مؤهلا لمنصب رفيع، وبشكل عام، مواطنا نشيطا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وفي السجن، يفقد السجين فرديته التي يفترض أنه يعمل على تعزيزها وإبرازها في الحياة الحرة؛ بدءا من مصادرة بطاقة هويته الشخصية حتى إنهاء مدة حكمه، وليس انتهاء باللباس الموحد ونمط الحياة الرتيب والمضبوط بروتين محدد، المفروض على السجناء.

السجين يسلب تلك الحقوق التي هي من بديهيات الأمور خارج السجن، باعتباره خاضعا لإجراء عقابي لقاء انحراف سلوكه عن الحدود التي عينها القانون ومنع تجاوزها، أما الجانب الإصلاحي، فلا وجود له إلا نظريا، وكثيرا ما يثبت الواقع عكسه.

لا يفترض في مجتمع السجن أن يشبه ما هو خارجه، لكنه كذلك إلى حد بعيد في بعض مجتمعاتنا. في بعض الأوجه، اختلط الاثنان إلى حد لم يعد يعرف معه أيهما الأصل ومن انبثق عمن. يتشابه المجتمعان في أوجه عديدة. الفساد، منطق القوة، غياب الإحساس بالفردانية والرقابة المحكمة على السلوك والفكر المعبر عنه علنا فيما يتجاوز منطق الجريمة وإلحاق الضرر بالغير بكثير.

يجري تبادل الاستعارات من السجن وإليه باستمرار، وليست إجراءات التفقد الصباحي اليومي في المدارس، حيث اللباس الموحد والشعارات المطلوب الهزج بها بحناجر متأهبة، والحركات المستقاة من الممارسات العسكرية المفروض تنفيذها من قبل التلاميذ والطلاب، إلا أحد أوجه تلك الاستعارات.

ومن ذلك أيضا، اختصار «الأمّة» التي سنت قوانين للحفاظ على سوية مشاعرها القومية وحمايتها من الانكسار، إلى أمة السجن. على اعتبار أن أمة السجن المحجور عليها والمجردة من حقوقها المدنية والسياسية لما أبدته من سلوك أضر بمجتمعها الكبير أو خدش مبادئه ونظامه العام، تتماثل مع الأمة الكبيرة التي انبثقت عنها في احتفاظها بحقها بأن تبقى مشاعرها القومية مصونة من الأذى والانكسار. من أجل هذا تعرض معتقلان من معتقلي الرأي المحتجزين في سجون مدنية مع السجناء الجنائيين في سورية، إلى محاكمات جديدة. والتهم من جديد هي إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة، أمة السجن، التي تأذى شعورها لما زعمت سماعه من أولئك المعتقلين حول أمور تتعلق بمحظورات السياسة والمجتمع.

وفيما حكم بموجب تلك التهم، على أحد هذين المعتقلين الطبيب كمال اللبواني، بالسجن ثلاث سنوات إضافة إلى حكمه الأصلي بالسجن اثني عشر عاما، فإن الآخر، الطبيب وليد البني أحد معتقلي إعلان دمشق الصادر بحقه أصلا حكم بالسجن سنتين ونصف، لا يزال قيد المحاكمة.

والتشابه لا يقف عند حد أن الجهاز القضائي لم يجد بأسا من إسقاط وصف «الأمة» على مجتمع السجن، في معرض توصيفه الجرمي «للجرائم» المزعوم ارتكابها من قبل المعتقلين. بل تعدى ذلك إلى سلوك السجناء الجنائيين، الذين تمثلوا إخوتهم في المجتمع الكبير، في كتابة التقارير الأمنية بحق الآخرين، وفي تمثلهم بالمواطن الصالح الذي يدعى للشهادة أمام القضاء على سلوك منحرف هو بمنأى عنه.

والحق أن أمة السجن تلك تتمتع بحقوق الوشاية والتشفي التي هي من أصل حقوق المجتمع الكبير وأساسها عمليا، ولا ينتقص ما جردت منه مؤقتا من حرية وفردانية وحقوق بموجب القانون، من حقها في الحفاظ على سلامة نفسيتها من الوهن.

وقد يرى البعض في ذلك ابتذالا لمفهوم الأمة وخلطا غير مبرر لما اقتضى قرونا عدة لصياغته فكرا وفلسفة ينهضان بالإنسانية. وقد يرى آخرون فيه بالعكس، إعلاء لحقوق السجين بإضافة بند لم يخطر في بال معدي الاتفاقيات الدولية لحقوق السجناء، نقاشه أو إدراجه فيما سبكوه من مواد ومبادئ، لكنه في المقام الأخير ليس هذا ولا ذاك، لأن الحدود ضاعت منذ زمن بعيد، منذ أن أصبح المجتمع الكبير يصاغ على شاكلة مجتمع السجن، ومنذ أن أصبح السجن مكانا لغير من أوجد أساسا لإيوائهم، ومنذ أن أصبح على كل فرد أن يستذكر لائحة اتهامه المفترضة قبل تناول فطور الصباح.

* كاتبة سورية

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top