شعار الدولة الواحدة 2

نشر في 21-09-2008
آخر تحديث 21-09-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد لاتزال المناظرة حول الدولة الواحدة نشطة للغاية في ما بين المفكرين والنشطاء الفلسطينيين. ويهدد أنصار أبو مازن بأنهم سينتقلون من المطالبة بـ«رؤية بوش» القائمة على دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنبا إلى جنب في سلام إلى رؤية مترسبة بأصالة في الضمير الفلسطيني وهي دولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين تحت الانتداب. وقد بات الحديث عن «الدولة الواحدة» شائعا في الضفة بالذات، حتى أن جريدة «كريستيان ساينس مونيتور» اضطرت لتغطية الموضوع بتوسع منذ أيام رغم أنها من أشد أنصار اليمين الإسرائيلي.

- من اليأس إلى اليأس

وتنطلق الدعوة للدولة الواحدة من اليأس من إمكان استعادة الأرض المحتلة في يونيو 1967 كاملة والقناعة بأن ما يمكن أن تنسحب منه إسرائيل لن يكون سوى «غيتو» معزول وخاضع. ولكن شعار الدولة الواحدة لديه فرصة أقل في التحقق عن استعادة الضفة والقطاع بما فيها الجزء الأكبر من القدس الشرقية القديمة. ففي حين ينظر الإسرائيليون إلى إعادة الأرض المحتلة في يونيو 1967 كـ«ضريبة مؤلمة» قد يدفعونها لقاء «السلام» والاندماج في المنطقة، تجدهم ينظرون إلى شعار الدولة الواحدة كتدمير لدولة إسرائيل لأنهم سيفقدون فيها الأغلبية السكانية وما يسمونه الطابع اليهودي لدولة إسرائيل.

- أخطاء متبادلة

والواقع أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يقعان في خطأ كبير ومتقاطع. فأغلبية الإسرائيليين لا تريد فقدان الأغلبية اليهودية في دولتهم، غير أنها بذلك تكافح ضد قانون ديموغرافي لابد أن يفرض نفسه عليها طال الزمن أم قصر. بل إن الفلسطينيين يكافحون ضد قانون اقتصادي صرف. فلو استمر نمو الاقتصاد الإسرائيلي بالمعدلات المتوسطة التي حققها في العامين الماضيين، والأهم لو عاد الاقتصاد يحقق المعدلات العالية التي سجلها بعد توقيع اتفاق أوسلو لاحترق من دون إمداده بقوة عمل شابة ومتجددة. وهو لن يحصل على قوة العمل هذه من اليهود في الغرب أو في الشرق بعد أن كاد يستنفد تماما احتياطي اليهود في روسيا والكومنولث الروسي ودول أوروبا الشرقية. ولو أن اليهود في إسرائيل فكروا بصورة موضوعية صرفة فلن يكون أمامهم أفضل من الاستعانة بالعمل الفلسطيني، وهو ما يعني تغير التركيبة السكانية بالضرورة والحتم كما تشير التجارب العالمية المختلفة.

وهذا هو ما يواجه أيضا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فالأولى اعتمدت تاريخيا على المهاجرين الأوربيين البيض البروتسانت ثم اضطرت للانفتاح على المهاجرين الأوربيين الكاثوليك. واضطرت للتنازل أكثر عندما بدأت تعتمد بصورة متزايدة على المهاجرين الكاثوليك من أميركا الوسطى والجنوبية المعروفين الآن باسم «الهسبانيين» أو «الشيكانو» بالعامية الأميركية. وهؤلاء لهم هوية متميزة ومختلفة ليس فقط عن القلب البروتسانتي الأميركي، بل أيضا عن الكاثوليك الأوروبيين. واليوم تنتقل «المشكلة» لو جاز هذا التعبير إلى أوروبا التي وصلت إلى نمو سكاني صفري أو سالب في بعض أهم بلادها. وليس لديهم سوى حل التوقف عن النمو أو الانفتاح على المهاجرين من العالم الثالث.

فإن كان هذا هو الاختيار بالنسبة لأوروبا وأميركا، فماذا يمكن أن يكون أمام إسرائيل؟ الحتمية السكانية لا يمكن اختصارها في مجرد خسارة الأغلبية العددية. فالأهم بكثير هو حتمية سقوط فكرة الدولة الدينية أو الثقافية النقية. الرؤية الليبرالية الصرفة للدولة باعتبارها كيانا يجمع مواطنين أحرارا متساوين ولهم انتماءاتهم الدينية والثقافية المتنوعة، أو ما أسمته اليونسكو في تقريرها الشهير بنفس العنوان «تنوعنا الخلاق» يبدو أمرا حتميا. وإقصاء هذه الحتمية يترك بديلا وحيدا، وهو الفاشية والانغلاق والقبول بالانكباب على الهوية داخل قفص حديدي في محاولة يائسة لقمع تيار الحياة من التدفق بحرية.

- زيف «القنبلة العددية»

الفلسطينيون من جانبهم مخطئون في الاعتماد المبالغ فيه على ما يسمى بالقنبلة الديموغرافية، فرغم أن معدلات الخصوبة تمنحهم ميزة طبيعية فالدول والمجتمعات لم تعد تتعين بأغلبيات وأقليات عددية، فحتى لو أن أغلبية الأميركيين صاروا من خارج القلب البروتستانتي أو ما يسمى بالواسب (البيض من البروتستانت من الطبقة الوسطى) فسوف يظل هؤلاء قلب الدولة والطبقة الحاكمة فيها وربما من يعين هويتها لمئات السنين المقبلة لأنهم لايزالون الفئة المتفوقة تكنولوجيا وثقافيا واقتصاديا بالطبع. وفي المقابل، فإن الميزة التاريخية للأفارقة الأميركيين من حيث هم أقدم ثاني جماعة عرقية وثقافية استوطنت أميركا الشمالية ولو بغير إرادتها لا تكاد تمنحها دورا في الاقتصاد والسياسة لأن إنجازها التعليمي والتكنولوجي والثقافي لايزال محدودا للغاية مقارنة بأقليات جاءت إلى أميركا منذ عقود قليلة، ولكنها تضيف الآن عناصر التفوق في المستقبل: الرياضيات وعلم الإحصاء والهندسة الوراثية والمعلوماتية وتكنولوجيا الطاقة الجديدة والمتجددة والعناصر العلمية عامة مثل الهنود والصينيين وبعض الآسيويين الآخرين، بل بعض العرب.

ويترتب على هذه الحقيقة أنه حتى لو افترضنا قبول إسرائيل بحل الدولة الواحدة، فهو لن يكون أكثر كرما معهم عما تحققه الأقلية الإفريقية في الولايات المتحدة أو في بعض بلاد أوروبا. فالفارق في مستويات الأداء كبير للغاية في المجالات التنظيمية والسياسية والتكنولوجية والعلمية، وفي ما يتعلق بمعدلات الإنتاجية. وإذا وافقت إسرائيل على هذا الحل فسوف تتغير تماما صيغة العلاقة من صراع بين «شعبين» إلى صراع بين «عرقيتين» أو بين «أقليتين» أو بين «طبقتين اجتماعيتين» وتتغير صيغة العلاقة الاستعمارية من استعمار خارجي إلى استعمار داخلي، وهو ما قد يقود الفلسطينيين إلى تصدعات نفسية ومؤسساتية وأخلاقية أشد مما يعانيه الأفارقة الأميركيون في الولايات المتحدة.

- حتمية قهر الفارق الحقيقي

والواقع أن أهم الفوراق بين الفلسطينين والإسرائيليين ليس في التعليم أو الأداء الفردي في مجال الأعمال، الفارق الحقيقي يقوم على نجاح إسرائيل في تكوين مجتمع سياسي قابل للحياة والتكيف مع ضغط التعددية والصراع الاجتماعي والإيديولوجي والثقافي. فظل الفشل يطارد الفلسطينيين في هذا الجانب تحديدا. وللأسف لم تتح للفلسطينيين- لأسباب تاريخية يطول شرحها ويشاركهم فيها معظم مجتمعاتنا العربية- أن يكوِّنوا مجتمعا سياسيا منظما وقادرا على تأسيس دولة مستقلة ومقتدرة. وحتى في سياق النضال الوطني وتدفق المشاعر الوطنية الفياضة لم يخض الفلسطينيون ولا غيرهم من العرب تجربة سياسية أصيلة تعكس تفوقا في إدراك معنى المجتمع السياسي الحديث. فظلت الدولة العربية قهرية متعالية عنيفة عرقية وطبقية ومنحطة أخلاقيا بعد أن ملأ الفساد جنباتها وكاد يحصر طبيعتها أو يخنقها من الداخل والخارج. وفي الحالة الفلسطينية فسدت السلطة الفعلية قبل أن تتأسس الدولة.

ورغم الصراعات والحروب الأهلية والمآسي التي عاشها الفلسطينيون في السنوات الأخيرة، فهم لم يتمكنوا من حل المعضلة الرئيسية التي تواجههم، وهي تأسيس مجتمع سياسي متحرر من الفساد والقبلية والأدلجة الزائدة والقهر والفوضى. ولو دخلوا في إطار دولة واحدة بإرث هذا الفشل فلن يزيدوا أبدا عن أن يكونوا أقلية مقهورة وقابلة للتدمير النفسي والأخلاقي على يد خصمهم الإسرائيلي. وقد يحبهم الإسرائيليون هكذا لأنهم يحققون لهم «أسطورة التفوق الأخلاقي اليهودي» بما يغسل سطحيا جريمة اغتصابهم للأرض الفلسطينية.

والبديل الوحيد هو أن يوظف الفلسطينيون دولة يحصلون عليها في الضفة والقطاع لتأسيس مجتمع سياسي راق وتجربة ثقافية وأخلاقية أصيلة. وهذا هو الضمان للمساواة ولبناء حالة ديمقراطية حقيقية في دولة واحدة في مرحلة تالية من المستقبل. دولة ديمقراطية فلسطينية هي الضمان الوحيد لإبرام عقد دولة ديمقراطية واحدة لشعبين أو دولة لكل مواطنيها كما يتصورها عزمي بشارة.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top