الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (11)

نشر في 12-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 12-09-2008 | 00:00
No Image Caption
جاء السفير العراقي ثم سبعاوي لفيصل الصانع وكان جوابه اخرجوا من الكويت ودعوا الكويتيين يتدبرون أمورهم
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة.

إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية.

إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين.

إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب.

الصامدون

لقد سطّر الشعب الكويتي صفحات رائعة في تاريخه في مرحلة الاحتلال الصدّامي للكويت، وهذا ما لم يُكتَب عنه بعد كما يستحق هؤلاء الصامدون الذين قاموا بأعمال لا بد من تسجيلها، وهذا عمل أجدني متحمساً للمساهمة فيه، وأرجو أن يكون هذا الحماس موجوداً لدى آخرين، خصوصا ذلك النفر من الوطنيين الشجعان الذين عانوا مأساة ذلك الاحتلال وعرضوا أنفسهم لشتى أنواع المخاطر دفاعاً عن بلدهم وشعبهم.

وقد قام نفر من الصامدين ببعض المبادرات وقُدّمت إلى السلطات الرسمية ولكنها لم ترَ النور. وهناك محاولة أخرى من بعض الصامدين لتدوين تلك المرحلة الصعبة وأساليب مواجهتها، ليطلع الرأي العام على هذه البطولات الرائعة، وكيف تحوّل هذا الشعب الصغير والآمن إلى خلية نحل منذ اللحظة الأولى للاحتلال. كل فرد له مهمّة تتعلق بحفظ الناس وكرامتهم وتأمين مساعدتهم على توفير سبل الحياة، من توزيع الخبز إلى أعمال النظافة العامة، إلى ملاحقة كل ما يحصل من مشاكل للناس، حتى أن بعضهم تحوّلوا إلى حلاقين وجزّارين ومسعفين طبيين... إلخ، مع أن هذه ليست مهنهم، بل قام بها أفراد من هذا المجتمع بلا أنفة ولا استعلاء على أداء أي عمل لمصلحة الجميع.

وقد أصبحت المساجد والدواوين أماكن لقاء لتنظيم العمل وتنسيقه، مما يرفع المعنويات ويعزز القدرة على الصمود. فالشعب الكويتي كله ومعه أعداد من المقيمين الذين حفظوا لهذا البلد المودة والجميل شاركوا في المواجهة والصمود، وكانت مرحلة اختفت فيها الفوارق الاجتماعية وأصبح المجتمع كله لحمة واحدة.

إن ملحمة الصمود لم تُكتب. كل ما نُشر هو على لسان الإخوان المسلمين. وهو في أغلبيته تطاول على بطولات الآخرين، وأنا مع بعض الأصدقاء بصدد توثيق ذلك مع الأبطال الحقيقيين، لكنني هنا سوف أذكر رواية للصامدة إيمان البداح، وهي التي لعبت دوراً مميزاً، عمّا عايشته في هذه الملحمة الرائعة، ورواية أخرى للدكتور غانم النجار تتعلق بما قام به هؤلاء الصامدون، خصوصا في سبيل الأسرى الذين أسرهم الاحتلال ونقلهم إلى السجون في العراق، ومتابعة هذه القضية.

رواية إيمان البداح

قد سطر الصامدون في الكويت أثناء الغزو بطولات كانت سنداً ودعماً لكويتيي الخارج تحفِزهم على المزيد من العطاء والعمل لتحرير الكويت، فقد تنادى أبناء الكويت بشكل تلقائي منذ الأيام الأولى للغزو لتنظيم الحياة في ظل غياب السلطة والفوضى العارمة التي خلقها «جيش صدام الشعبي»، فتأسست بشكل متوازٍ وبمبادرات شخصية لجان عمل شعبي تولت إدارة الجمعيات التعاونية والمستوصفات والمستشفيات ومراكز التحكم في الكهرباء والماء ومحطات والوقود ومخابز شركة المطاحن ومخازن المواد الغذائية.

وكان للشباب الوطنيين دور ريادي في تنظيم الخدمات الأساسية وزرع بذور المقاومة المدنية والعسكرية. وقد قرر الشباب إصدار نشرة سرية بعنوان «الصمود الشعبي» تهدف إلى شد أزر الصامدين ودعمهم معنوياً وسدّ الفراغ المعلوماتي ومجابهة الإعلام الصدامي المدمِّر. وزخرت الرسالة بأخبار المقاومة الشعبية وبآخر تطورات العمل بالخارج لتحرير البلاد وبالنصائح العملية ورسائل الدعم والحَفْز لمزيد من المقاومة. وهكذا بدأت فكرة الصمود الشعبي بمبادرات فردية وتحوّلت بسرعة إلى شبكة سرية متكاملة تألفت من خلايا تصوير وخلايا توزيع وخلايا متابعة وتحرير الأخبار. ورغم ملاحقة العراقيين واعتقالهم وقتلهم للكثير من الشباب الطيبين الذين ساهموا في إصدار «الصمود الشعبي» وتوزيعها فإنها استمرت في الصدور إلى ما بعد التحرير.

كما تنادى الشباب الوطنيون بمبادرة من سارة الصايغ وعلي الصايغ لتنظيم وسائل اتصال بالأسرى العسكريين الذين اعترف النظام العراقي باعتقالهم كأسرى حرب، وهم في الغالب ضباط الجيش وأفراده والمجندون الذين اعتقلوا في معسكرات الدفاع خلال يوم الغزو. وقد احتفظ بهم صدام في معتقلات كبيرة في بعقوبة والموصل وغيرها. وبدأ الشباب برحلة لأهالي الأسرى في الكويت الى بغداد على متن باصين لاستخراج أذونات الزيارة للأهالي في اليوم التالي. وبسبب نجاح الرحلة الأولى تحولت في وقت قصير إلى قوافل من الباصات تخرج مرّتين في الأسبوع من الكويت إلى العراق لزيارة الأسرى وإيصال المال والسجائر والأخبار لهم بشكل دوري حتى يوم إقفال الحدود وبداية الحرب الجوية. وقد تفاوض الشباب مع مكتب الأسرى العراقي لإصدار تصاريح الدخول في اليوم نفسه مما أعطى الأهالي مدة أطول مع أحبائهم ورفع الفائدة من مدة الزيارة. وقد كلف ذلك التساهل العراقي الكثير من المال والسيارات والأجهزة الالكترونية للرشاوى. كما سمحت زيارات العراق بالاتصال بالعالم الخارجي، إذ أقام الأهالي في فندق الرشيد في العراق وكان مجهزاً بالاتصالات الدولية للصحافيين الذين دعاهم صدام لمتابعة أخباره. وقد استغل الأهالي خطوط الاتصال للوصول إلى أهاليهم في الخارج وطمأنتهم، وأتاح للشباب فرص الاتصال بجمعيات حقوق الإنسان وغيرها. كما أعطانا فرصة للاتصال بهم وإطلاعهم على تحركاتنا بالخارج والاطمئنان على أوضاعهم في الداخل وشدّ أزرهم. كما أوصل الشباب رسائل الأسرى إلى أهاليهم النازحين وعادوا لهم بأخبار أهاليهم الطيبة لرفع معنوياتهم.

وبدلا من شكر هؤلاء الشباب على دورهم المميز، لعبت السلطة دوراً في تشويه صورتهم لدى الضباط الأسرى بعد تحريرهم، واتهمتهم بالتعاون مع العراقيين ومحاولة قلب نظام الحكم. كما قام «أمن الدولة» بالتحقيق مع السيدة أمل النجار منسقة حملات الزيارات في محاولة لتوريطها بتهم التعاون مع العدو، لكنه فشل في ذلك ولله الحمد.

وبعد التحرير مباشرة تنادت مجموعة الشباب نفسها لتنظيم استقبال الأسرى العائدين من العراق. ورغم فرحتهم بإطلاق سراح الضباط والمجندين فإنهم صُدموا بإنكار صدام وجود قائمة كبيرة من المعتقلين والمفقودين المدنيين والعسكريين الذين اعتقلوا لاحقاً بتهمة المقاومة مثل يوسف المشاري وزملائه.

الصدمة الأكبر كانت عدم الاكتراث والفوضى الحكومية رغم وصول قوائم الأسرى والمفقودين قبل التحرير بكثير. لذا قرّر الشباب تنظيم جمعية أهلية تعنى بالأمر وأسموها «الجمعية الكويتية للدفاع عن ضحايا الحرب». وقد تطوّع للعمل في هذه الجمعية أعداد كبيرة من المختصين النفسيين والأطباء الإعلاميين والمبرمجين ومدخلي البيانات وفرق البحث والمقابلات وجمع المعلومات. ووصل عدد المتطوعين إلى أكثر من 1200 متطوع ومتطوعة.

وقد سدت جمعية ضحايا الحرب فراغاً كبيراً، سواء لجهة جمع المعلومات والتنسيق مع جمعيات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام الغربي أو لجهة تقديم المساعدات والخدمات الضرورية لضحايا التعذيب والاغتصاب وذوي الشهداء والأسرى والمفقودين. كما شكلت منفذاً إيجابياً لطاقات الشباب المتحمسين لإعادة إعمار الكويت وخدمة الوطن، كما أخذت الجمعية على عاتقها حماية حقوق المعتقلين في الكويت بعد التحرير وحقوق مساجين سجن طلحة سيئ الذكر.

ولخلو الجمعية من أي أغراض سياسية فقد قدمت خدماتها إلى الكل بغضّ النظر عن أي اعتبارات غير إنسانية. فاحتوت قوائمها على الأسرى والشهداء والمفقودين من العرب والبدون دون تمييز. مما أثار سخط الحكومة وسبب لها إحراجاً أمام الجمعيات الإنسانية وجمعيات حقوق الإنسان. فكرست طاقاتها وعملاءها لتدمير الجمعية وإغلاقها تماماً. ومن الناشطين في الجمعية الذين أذكرهم مع الاعتذار لمن قد أنسى ذكرهم: محمد أشكناني، وسعود العنزي، وعبدالخالق التويجري، وبندر الخيران، وإبراهيم القطان، ونجم عبدالله، وأمل الشطي، ود. غانم النجار، وأمل عبدالله، وخالد المضف، وهدى الدخيل، وأسماء الصالح، وراشد العجيل، وأحمد العتيبي، وسندس حمزة، ونافع الحصبان، وأمل البداح، وعبدالعزيز المفرج، وعادل نصيب، ويوسف شعبان، ومضف مهلهل، وباقر دشتي، وخلدون الصانع، وغيداء الحسين، ومبارك العدواني، ورواء الجارلله، وعبد العزيز الغربللي، ورجاء أشكناني، ووفاء العتيقي، ومي الغربللي، وعادل الفوزان، وأماني البداح، وعايدة المطوع، وخالد العوضي، وفيصل الجزاف، وعبدالخالق التويجري، ومشاري المشاري، وريم الموسى، وقيروان أشكناني، ومحمد الراشد، وهيثم العثمان، وابتهاج النجران، وعمار الفوزان، وصلاح الثويني، وأحمد الحجي، وعبدالعزيز الموسى، وعماد السيف، وطاقم الرعاية النفسية (د. جاسم حاجية، ود. بثينة المقهوي، وألطاف العيسى، ود. غالب عبدالأمير الذي اضطر إلى مغادرة الكويت بعد المضايقات التي تعرض لها الأطباء البدون بعد التحرير وكثيرون غيرهم)، ومئات آخرون لا تحضرني أسماؤهم.

رواية د. غانم النجار

وقد كان لقضية الأسرى دور كبير في ملحمة الصمود، فقد تم تنظيم الرحلات لزيارة الأسرى في معتقلاتهم في العديد من المدن العراقية كبعقوبة وتكريت والموصل والرمادي. وقد بدأت حملات زيارات الأسرى بصورة عائلية من أهالي الأسرى ثم تحولت بعد ذلك إلى عمل منظم ساعد في رفع معنويات الصامدين والأسرى على حد سواء، إذ بدأ الدكتور غانم النجار وشقيقته أمل النجار زيارة أولى لزوج شقيقتهما في سجن بعقوبة بالإضافة إلى أسرى آخرين. وفور عودتهما من تلك الرحلة توافدت عليهما مجاميع من أهالي الأسرى للاستعلام عن كيفية مساعدتهم في الوصول إلى أبنائهم. وعلى إثر ذلك تطورت العملية وتنظمت بصورة دقيقة وزاد عدد الباصات إلى ثلاثة أو أربعة باصات أسبوعياً يتم استئجارها من ساحة دوار العظام قرب الصليبيخات. وقد تنادى الشباب الوطنيون لدعم ترتيبات هذه العملية المعقدة والمحفوفة بالمخاطر ولم تقتصر تلك الرحلات فقط على زيارة الأسرى وتزويدهم باحتياجاتهم فحسب، بل تحولت إلى حلقة وصل بين الصامدين وأهلهم خارج الكويت، إذ كانوا يتصلون هاتفيا بأهاليهم من بغداد، مما رفع كثيراً معنويات الصامدين ومعنويات أهلهم في الخارج، كما قادت تلك الرحلات حملة تشجيع الكويتيين العائدين من الخارج، إذ كان يتم الاتصال بهم من بغداد والاتفاق معهم على موعد محدد أثناء وجودهم في بغداد لزيارة الأسرى، ومن ثم يدخل الكويتيون من الخارج عن طريق الأردن ويعودون بمعيتهم للكويت.

كذلك فقد بذلت سارة الصايغ وشقيقها علي الصايغ جهداً جباراً في إيصال المساعدات إلى أسرى في جميع المعتقلات العراقية، ولأنهما قد تخصصا في نقل الاحتياجات الإنسانية فقد كانا يؤجران الباص ويملآنه باحتياجات الأسرى ثم يوزعانه بالتساوي في كيس بلاستيكي أصفر أطلق عليه «كيس الأسير»، وذلك لأن بعض المعتقلات ترفض تسلم الحاجيات إلا بأسلوب معين.

وقد تعرض القائمون على تنظيم تلك الرحلات لمخاطر عديدة، ومضايقات متنوعة من المخابرات العراقية، خصوصا أن عدد المساهمين والمبادرين إلى دعمها من الشباب الوطنيين كان في ازدياد مضطرد، ولم يبخل الكويتيون الصامدون في دعم هذا النشاط الفريد من نوعه، وأتاح ذلك للشباب فرصة الاتصال بوسائل الإعلام الموجودة في بغداد لإطلاعها على أوضاع الكويت المحتلة، وجرى تهريب العديد من الصور والأفلام التي تم تصويرها مع كل ما كان يحمله ذلك من مخاطر حقيقية، فقد كانت سلطات الاحتلال تعدم من بحوزته كاميرا. كما أتاح لهم ذلك فرصة الاتصال بالمنظمات الدولية لحقوق الإنسان وإطلاعها على أوضاع الصامدين وانتهاكات حقوق الإنسان الجارية بشكل يومي في الكويت المحتلة، كذلك فقد أعطانا هذا العمل فرصة للاتصال بالأسرى وإطلاعهم على تحركاتنا بالخارج والاطمئنان على أوضاعهم في الداخل وشد أزرهم. كما أوصل الشباب رسائل الأسرى إلى أهاليهم النازحين وعادوا لهم بأخبار أهاليهم الطيبة لرفع معنوياتهم.

وبدلاً من أن تقوم السلطة بشكر هؤلاء الشباب على دورهم المتميز، لعبت دوراً في محاولة تشويه صورتهم لدى الضباط الأسرى بعد تحريرهم، عن طريق الافتراء بالاتهام بالتعاون مع العراقيين ومحاولة قلب نظام الحكم، ولكنها فشلت في ذلك ولله الحمد.

وهذا موضوع أتمنى أن تتاح لنا فرصة تقديم وقائعه الحقيقية لكي يعرف الشعب الكويتي حجم التضحيات التي بذلك والمصاعب التي تمت مواجهتها لدعم هؤلاء الأسرى وتأمين التواصل معهم.

وبعد التحرير مباشرة، تنادت مجموعة الشباب نفسها لتنظيم استقبال الأسرى العائدين من العراق والذين كان يتم استقبالهم في المطار القديم ثم ينقل الكويتيون منهم إلى صالة شيخان الفارسي في منطقة السرة، أما الأسرى البدون فقد كانوا يُنقلون إلى صالة المعهد الديني بمنطقة قرطبة. وقد كان أمراً مؤسفاً أن يقوم النظام بالتفريق بين الأسرى الكويتيين والبدون، وهو ما يدل على قصر نظر وافتقار إلى أبسط معاني الأخلاق، إضافة إلى افتقار الحصافة.

إلا أن مسلسل الأسرى يبدو أنه سيظل مفتوحاً حتى هذه اللحظة. فعلى الرغم من عودة الآلاف من الأسرى بالطرق الرسمية ومن خلال تنظيم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإنّ نظام صدام حسين أصر على إنكار وجود مئات الأسرى، وخصوصا الذين اعتقلهم بتهمة المقاومة من أمثال يوسف ثنيان المشاري وزملائه.

إلا أن الصدمة الكبرى بالنسبة للشباب الصامدين كانت حالة عدم الاكتراث والفوضى الحكومية وسوء الإدارة، إذ لم تتمكن الإدارة الحكومية من تجهيز قائمة معتمدة للأسرى، وقد أدى ذلك التخبط والتضارب بالأرقام إلى فقدان مصداقية المطالبة بالأسرى، فأرقام الأسرى تتغير بين فترة وأخرى. وهكذا أسست مجموعة الشباب نفسها التي كانت قد أصدرت نشرة الصمود الشعبي ونظمت رحلات أهالي الأسرى «الجمعية الكويتية للدفاع عن ضحايا الحرب» وقد تطوع للعمل في هذه الجمعية مئات من الشباب والشابات الكويتيين الصامدين، كما تطوع للعمل فيها أعداد كبيرة من الاختصاصيين النفسيين والأطباء والإعلاميين والمبرمجين ومدخلي البيانات وفرق البحث والمقابلات وجمع المعلومات، إذ وصل عدد المتطوعين إلى أكثر من 1200 متطوع.

وقد تعاونت الجمعية مع الجهات الرسمية بصورة ملحوظة واتضح ذلك من العدد الكبير من المراسلات التي تطلب فيها الجهات الحكومية معلومات أو دعماً فنياً من الجمعية، وشمل ذلك الجهات الرسمية من جميع المؤسسات والهيئات بما في ذلك الديوان الأميري، ولم تخل تلك المراسلات الرسمية من كتب شكر وتقدير للدور البارز الذي لعبته الجمعية بعد تحرير الكويت.

فقد ملأت الجمعية فراغاً كبيراً ملحوظاً في الفترة التي تلت التحرير سواء في الجهد المبذول بجمع المعلومات أو التنسيق مع جمعيات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام الأجنبية، فكانت مقراً لاجتماعات تلك المنظمات مع ضحايا الانتهاكات التي مارسها الغزاة ضد الصامدين من كويتيين وغيرهم. كما أقامت الجمعية معرضاً لأدوات التعذيب التي استخدمتها سلطات الاحتلال في التعذيب ضد المدنيين الآمنين في الكويت، وكان الناس يقفون طوابير طويلة ليطلعوا على تلك المعدات الرهيبة التي كان يقوم بشرحها الضابط علي الفودري وآخرون. كما قامت الجمعية بتقديم الخدمات والمساعدات الضرورية إلى ضحايا التعذيب والاغتصاب وذوي الشهداء والأسرى والمفقودين.

وقد التزم القائمون على الجمعية بخط إنساني غير سياسي، خط إنساني لا يفرق بين الناس الصامدين سواء كانوا كويتيين أو بدون أو غيرهم. ووفرت لهم الحماية القانونية من خلال محامين متطوعين. وقد أجرى المسؤولون عن الجمعية لقاءات متواصلة مع الحاكم العرفي حينئذ والعديد من الوزراء لتنبيههم لتردي الأوضاع في السجون وتراجع أوضاع حقوق الإنسان بصورة عامة، الأمر الذي كان سينعكس على سمعة الكويت، وعرضت الجمعية جميع إمكاناتها لمساندة الحكومة، إذ تطوع شباب وشابات الجمعية في إعادة ترميم سجن الأحداث، وهو السجن الوحيد الذي كان في حالة مقبولة، فنظفوه وأعادوا تأهيله وساعدوا إدارة السجن في ذلك.

كما أدت جهود الجمعية إلى التنبيه للحالة المتردية التي كانت عليها أوضاع السجن العسكري مما أدى إلى إغلاقه لاحقاً. ولم تأخذ الحكومة مطالبات الجمعية على محمل الجد، مما أدى إلى أن يقوم المئات من الإعلاميين الغربيين ومنظمات حقوق الإنسان برصد تلك التجاوزات الصارخة، الأمر الذي انعكس سلباً على سمعة الكويت في الخارج حتى وصل الأمر إلى أن يقول بعض السياسيين الغربيين إننا لم نحرر الكويت من صدام لكي تقوم الحكومة الكويتية بممارسات مشابهة.

كان واضحاً أن الأعباء التي تصدت لها الجمعية أكبر بكثير من قدرتها وطاقتها وبدلاً من أن تسعى السلطة إلى دعم الجمعية والاستفادة من جهود الشباب المتحمسين لخدمة وطنهم وإعادة إعماره، أخذت تضع العراقيل وتثير الشكوك، وتهدد بعض الشباب لثنيهم عن العمل في الجمعية بصور مؤسفة.

اتخذت الجمعية في بادئ الأمر من جمعية المحامين مقرا لها في بيت مؤجر بمنطقة ضاحية عبدالله السالم، ومع اتساع العمل تبرع السفير غازي الريس وشقيقه صباح ببيت مجاور لهما، وبعدئذ انتقلت الجمعية إلى مدرسة أزدة بنت الحارث في ميدان حولي، وقد شهد عملها ونشاطها تطوراً نوعياً ملحوظاً.

وقد أولت الجمعية قضية الأسرى والمفقودين اهتماماً كبيراً حتى أنها دعت أهالي الأسرى والمفقودين إلى تأسيس هيئة خاصة بهم، وتأسست بموجب ذلك رابطة أهالي الأسرى والمفقودين. كما دعت جمعيات النفع العام إلى القيام بدورها في هذه القضية، ونتج عن ذلك إنشاء الهيئة الشعبية للتضامن مع الأسرى والمفقودين. وعلى الرغم من تزكية كل جمعيات النفع العام لأن تكون رئاسة الهيئة لجمعية ضحايا الحرب فإن الجمعية أصرت على خلاف ذلك، فأصبحت رئاسة الهيئة للاتحاد العام لعمال الكويت الذي كان يمثله بندر الخيران، أما رابطة أهالي الأسرى فقد ترأسها المرحوم بدر الموسى. وقد نظمت الجمعية من خلال الهيئة أول حملة دولية خارجية شعبية شاركت فيها 13 جمعية نفع عام زارت الولايات المتحدة والتقت المسؤولين من الأمم المتحدة بنيويورك، كما التقت السياسيين والإعلاميين والمنظمات الدولية الحقوقية في واشنطن دي سي، وقام أعضاء الوفد بإلقاء المحاضرات وعقد المؤامرات الصحافية والمشاركة في الأنشطة العامة. وقد قام الوفد بالشيء نفسه في لندن وكذلك في جنيف وكان أعضاء الوفد في كل محطة يسلمون كبار المسؤولين آلاف الرسائل من ذوي الأسرى.

كان واضحاً أن الجهد الذي قامت به الجمعية يسبب إزعاجاً وقلقاً للسلطة بصفة عامة، وفي موضوع الأسرى بصفة خاصة، إذ كان موضوع الأسرى والاستهتار والتردي في طريقة معالجة الحكومة له سبباً لإحراجها. ومع مضي الوقت، كانت رداءة الحكومة في تعاطيها مع ملف الأسرى تزيد، وإحراجها من نشاط الجمعية يزداد كذلك، وبالتالي سعت الحكومة بكل قواها إلى إيقاف عمل الجمعية.

وقد تفتحت قريحة الصامدين بالكثير من القصائد والأغاني التي تعكس مشاعرهم ومعاناتهم وآمالهم تحت وطأة الاحتلال، ومن أهمها أغاني الشهيد فايق عبدالجليل مثل «ما نطلع منها ما نطلع، نبقى كويتيين، جانا الذيب»، وقصائد الشاعر مسفر الدوسري مثل «من يقول إن احنا كنا لحظة تحت الاحتلال... كنا إصرار وتحدّي... كنا فوق الاحتلال».

اعتقال فيصل الصانع ردٌّ على كل من حاول التطاول على شخصية هذا المناضل الشريف الذي اختار مبكراً الانحياز إلى الوطن والعروبة. ورغم انتمائه إلى حزب البعث أثناء دراسته الجامعية، فقد حافظ بإصرار، على موقف قومي نقي وواضح. فلم يقف مع أهل اليمين ولا أهل اليسار، في خضم معارك، وصراعات الحزب الداخلية، والقطرية، والقومية.

وعندما اختُزل الحزب في سلطة قطرية عائلية في العراق، آثر أن ينسحب بهدوء. فلا أغرته أضواء السلطة، ولا داعبته خيالات المنافقين. اختار العمل الوطني مدخلاً إلى انتمائه القومي، ورضي أن يكون جزءاً من العمل الوطني الديمقراطي في الكويت. فخاض الانتخابات البرلمانية ضمن قائمة «نواب الشعب». وفي مجلس الأمة كان عضواً فاعلاً في هذا الإطار.

وعندما حانت ساعة الفرز والحساب، وبعد أن دخلت جحافل غزو صدام الكويت، لم يكن لفيصل الصانع إلا أن يعبر عن نفسه، وحقيقته، ومعدنه.

فقد دان الغزو من البداية، ورفض كل المغريات التي عرضت عليه، من دعوة النواب الوطنيين إلى تشكيل حكومة تحت حراب الاحتلال، إلى الضرب بكل عبارات ومؤشرات التهديد والوعيد بالاعتقال عُرْضَ الحائط.

وقد جاءه السفير العراقي عارضاً عليه الإغراءات، ومن ثم أتاه سبعاوي مهدّداً. وكان جوابه لهما ولِمَنْ وراءهما: «اخرجوا من الكويت ودعوا الكويتيين يتدبروا أمورهم».

قام فيصل أثناء الاحتلال بدور وطني وتاريخي لا ينكر. فقد تداعى مع عدد من زملائه النواب للعمل، وترتيب أمور الناس، ومساعدة الصامدين من أهل الكويت. وفي ديوانه عقد أكثر من لقاء، وجمع مساعدات مالية وعينية للمواطنين. وشارك مع كوكبة من الوطنيين الأحرار في عدة اجتماعات توزعت ما بين ديوانه، وسرداب المرحوم عبدالعالي ناصر بالخالدية، ومنزل عبدالله النيباري في الضاحية.

وقد تمخّض عن تلك الاجتماعات أول بيان لبرنامج وطني ضد الاحتلال.

وعندما داهمت مخابرات صدام منزله في -21 9 - 1990، اعتُقِلَ مع صديقه نايف الأزيمع وابنيهما وابن أخته. ونُصِبَ كمين في ديوانه لاصطياد كل زواره. وكانت الحصيلة حتى يوم 23 - 9 - 1990 أكثر من خمسة وعشرين معتقلاً. سيقوا كلهم إلى البصرة حيث التأم شمل الجميع في سجن المخابرات.

ويتذكر رفاقه من نزلاء سرداب المخابرات في البصرة، أنه حُجِزَ في زنزانة فردية مظلمة، لكنه كان يشد أزر الآخرين حين يمرون أمام زنزانته في طريقهم، ذهاباً وإياباً إلى دورة المياه يومياً. وعندما تغلق الأبواب وينام السجانون، كان صوت فيصل يصل إلى أسماع رفاقه من خلف باب زنزانته المغلقة، متفائلاً وناصحاً ومشجعاً. وذكر من قاسموه السجن أنه كان يقول ويؤكد «لا يهمكم... هم المدانون لا نحن، وهم من يجب أن يحاكَم لا نحن».

وقد رفض قبل اعتقاله، فكرة أصدقائه بالسفر للخارج، حتى لعائلته وأولاده وقد أوصى ابنه في السجن «إذا ما قيض الله لكم الخروج من السجن فلا تتركوا ديرتكم الكويت».

وبهذه المناسبة لابدّ من التطرق إلى العلاقة الخاصة التي كانت تربط الاثنين صدّام حسين وفيصل الصانع. فعندما لجأ صدّام حسين إلى مصر بعد فشل محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم كان فيصل الصانع يدرس في القاهرة، ولكي يحافظ على كرامته دعاه فيصل الصانع إلى الإقامة عنده، وتولّى هو ومجموعة من الطلبة الكويتيين توفير كل حاجياته. وعندما عاد صدام حسين للسلطة كان يعبّر عن امتنانه لتلك الضيافة الكريمة، مما جعل فيصل الصانع يحتلّ مكانة خاصة عند صدام حسين. وقد كان فيصل الصانع هو المسؤول الحزبي الأول في الكويت وعضواً في القيادة القومية لحزب البعث. وعلى الرغم من قرار فيصل تعليق عضويته في الحزب لمعارضته مسيرة الحزب في الفترة الأخيرة ورفضه الموافقة على غزو الكويت فإننا كنا نعتقد أن صدام حسين لن يمس فيصل بأذى للاعتبارات التي ذُكِرَتْ.

ومن العادات العربية الأصيلة، وصدام يؤكد اعتزازه بها، ألا ينسى العربي «الأصيل» أي معروف قدّم له ويبقى طوقاً في عنقه إلى الأبد، لكنّ إعدامه أكد أن هذا الشخص قد تخلى حتى عن أخلاقياته كعربي بعد أن تنكّر لكل مبادئ حزبه. وصرنا نفهم كيف كان يتخلص من أقرب الناس إليه بدم بارد، كأحمد حسن البكر وعدنان التكريتي ابن خاله الذي تربّى في بيته وكان الاثنان من أقرب الناس إليه.

ولا بدّ من ذكر أسرار القبندي التي كانت من السبعة الأوائل في أميركا ممّن تخصصوا بالكمبيوتر، وهي ذات شخصية قوية وجريئة ومحبوبة كما يصفها من عرفها. ولمّا احتلت قوات صدام الكويت كانت من الأوائل الذين نظموا عملية الصمود في كل المجالات. وشاركت حتى في عمليات قتالية وأبدعت. وكانت صلة الوصل المهمة بيننا ونحن في لندن وهي في الكويت من خلال جهاز إرسال خاص في بيت أحد الأصدقاء. ولكن ما أثار التساؤل هو وحشية التعذيب الذي تعرّضت له من قِبل أجهزة الأمن العراقية وتقطيع جسدها الطاهر ووضعه بكيس ألقته هذه الأجهزة أمام بيتها؟ هناك سرّ، ولا بدّ أن يأتي اليوم الذي تُـكْتَب فيه هذه القصة البطولية كاملة.

غداً: معركة التحرير ووثيقة أبناء الصباح

توضيح وتنويه

منذ أن بدأنا في نشر ذكريات الدكتور أحمد الخطيب في العام الماضي، كنا مدركين لسقف الجرأة والصراحة والوضوح التي تناول بها الدكتور الخطيب سرد تلك الوقائع أو التعليق عليها. وكان نصب أعيننا ما قد يترتب (قانونياً) على نشر بعض تلك الوقائع أو التعليقات، فتجاوزنا نشر بعض الجزئيات التي تضمنها الجزء الأول من كتابه «ذكريات العمل الوطني... الكويت من الإمارة إلى الدولة»، لكنها جاءت كاملة في الكتاب وقد سمحت به الرقابة بعد تردد شديد، وبعد تجنيد فريق من القانونيين لدراسة كل حلقة نشرتها «الجريدة» وإمكان إحالتها الى النيابة.

وفي الجزء الثاني من ذكريات الدكتور أحمد الخطيب مضينا في النهج نفسه، نتجاوز بعض الفقرات أو التعليقات، التي تحتمل تفسيراً قانونياً سلبياً، وهو نشر فيه شيء من التصرف الذي لا يخل بسياق السرد ولا بمضمون الكتاب. ولتباين القانون في رقابة الصحافة واختلافها عن رقابة الكتب ورقابة الكمبيوتر والمدونات كان لا بد من إيضاح هذه الحقيقة للقارئ، وأن هناك بعض الفقرات أو الجزئيات تجاوزنا نشرها لأسباب رقابية بحتة.

الجريدة

back to top