نحو عولمة أكثر إنسانية

نشر في 07-10-2008
آخر تحديث 07-10-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ رغم كل ما قيل وقد يقال عن العولمة، ورغم ما سيسيل من حبر لتعريفها، ستبقى هذه الكلمة المهجنة بطبيعتها وطبعها؛ واحدة من مفهومات عصية على التعريف الناجز أو القاطع، فهي أحد التعابير النسبية غير القابلة للخضوع لحقول المطلق، طالما هي تعمل أو تشتغل في فضاءات حقول تضامنية أو تبادلية، تناهض نزعة الاستحواذ الفردي، أو هي في معاداتها للنزعة الفردية الاستحواذية؛ حتى في المجتمعات الأكثر حداثة وعصرية، تنحو نحو نزوع تضامني اجتماعيا وسياسيا، لتنفي عن المجتمعات والدول إمكان أو قدرة التخفي الإقصائي، والابتعاد عن مجرى أو مجريات جداول وأنهار العلم الدافقة، في عالم أمسى أكثر شفافية وانكشافا وتواصلاً وقدرة تواصلية وتوصيلية؛ أكثر من أي وقت سبق. من هنا تأتي أهمية أن يتبلور أو يسفر النزوع التضامني في تجادليته التبادلية، عن إنتاج أو تأسيس جوهر حداثي أكثر إنسانية لعولمتنا المعاصرة؛ محورها الإنسان والشعوب وثقافاتها على اختلافها وتعددها وتنوعها، ذلك أن التواصل الثقافي في ظل التلاقح الحضاري بين الثقافات المتنوعة المتفاعلة في ثنايا حضارتنا الراهنة، يقتضي، بل يحتّم العمل على ترشيد العولمة، عولمتنا المعاصرة، العاملة نحو خدمة أفضل للإنسان في كل مكان، وللشعوب على اختلافها وتنوع ثقافاتها المتعددة، بدل إخضاعها وخضوعنا لرأسمالية متوحشة تريد الاستحواذ النرجسي والأناني على كوننا ومصيرنا المشترك. وإذ لم تقتصر العولمة، على اختلاف حقبها التاريخية، على نمط واحد من أنماط انتشارها عبر العالم، فهي لم تكن؛ وليست تقتصر اليوم على كونها اقتصادية، قدر ما هي ثقافية بالأساس، يشكل الاقتصاد بنيتها التحتية؛ أما باقي الأقانيم فهي مفاعيل وتفاعلات كل البنى المرافقة -الفوقية- التي إما أن تصمد أمام رياح وأعاصير العولمة بكامل أنماطها داخل المجتمعات الوطنية، فتستفيد منها دون أن تخضع لآلياتها التدميرية، وإما أن تركع لمفاعيلها الوحشية، وإما أن تأخذها العزة بالإثم؛ فتغلق على ذاتها إقصاء وامتناعا عن التفاعل مع ما يمكن أن تقدمه العولمة الراهنة من امتياز الدخول إلى قلب الحداثة والمعاصرة، من دون التخلي عن الخصوصيات المحلية أو صيانة الهويات الثقافية. إن ترشيد العولمة لا يمكنه أن يتم من خارجها، بمعنى أنه لا يمكن التأثير في مساراتها وآليات اشتغالها -المحلية خصوصا- من قبل أناس يعيشون خارج الزمان والمكان. من هنا يجب تفعيل أدوار المجتمعات الوطنية عبر تأكيد حضورها الفاعل في مسارات العولمة المفتوحة على الآفاق الرحبة للتقدم الإنساني.

وقديماً كان الغزو الثقافي -الأميركي تحديدا- عبر أجهزة الاتصال والتواصل، إحدى أدوات عولمة مهيمنة لرأسمالية متوحشة، لم تكن لتأخذ بالاعتبار خصوصية المجتمعات الأخرى حتى القريبة، الأوروبية على سبيل المثال. كان دافعها غزو واختراق جبهات الآخرين، كل الآخرين، لأهداف لم تكن لتخفى يومها؛ نظرا لصراع أيديولوجي محتدم في ظل حرب باردة أكثر سخونة مما هي عليه اليوم. أما الآن... وفي ظل اتساع إطارات الاختراق والغزو، فإن عولمة زماننا هذا أمست أكثر قبولا وارتضاء، نظراً للحدود الواضحة التي بات التماثل يقف عندها: رفضا أو اختيارا أو انتقاء ما يناسب المجتمعات الوطنية من قيم استهلاكية، صار انتشارها يحد من إمكان إنتاج قيم أكثر جدة وجدية على الصعيد الوطني، وإلى حد صار لرافضي العولمة على اختلاف أطيافهم ومشاربهم إسهاماتهم الاستهلاكية أو الاستخدامية لنتاجاتها، دونما خوف من اعتبارها إحدى أكثر بدع الحداثة، طالما هي تخدم أهدافهم واستهدافاتهم الأيديولوجية. إن التراثات العالمية على اختلافها، إنما هي تراثات أممية إنسانية، يتوجب الحفاظ عليها، لا التفريط بها على مذبح عولمة متوحشة، يرغب المهيمنون عليها نشر نموذج لها يراد تخليده، وذلك على حساب كل نموذج آخر، ممكن، أو يمكن بلورته من واقع توافر عولمة أكثر إنسانية، يؤسس لوجودها وإنتاجها تلاقح حضاري راق، من جراء احترام ثقافات كل منا وإطلاق طاقاته الخلاقة والمبدعة، في التفاعل والتواصل بين ضفاف العالم المختلفة. العولمة ليست نموذجا، أو موديلا يمكن احتذاؤه أو استنساخه، فهناك مجموعة من العولمات على مر التاريخ المدون، ربما كانت أكثر إنسانية من تلك التي يحاول الرأسمال المتوحش راهناً أن يتوغل عبرها، أو من خلالها؛ في تفاصيل حياة الشعوب والأمم والثقافات، بهدف الهيمنة عليها بالقوة، وفي تغوّله الهادف إلى إخضاعها، دون الأخذ في الاعتبار تلك الخصوصية المهمة التي يتوجب الحفاظ عليها، لا إهدارها لمصلحة نموذج متوهم، يزعم لذاته الغلبة وقدرة الهيمنة، والانخداع بإمكان الاستمرار من دون أن يواجه بمقاومة الضعفاء الذين هدرت العولمة الراهنة حقوقهم، وجردتهم من تفوق إرثهم الثقافي الخاص بمجتمعاتهم، أو إهدار خصوصيتها التي لا يمكن مضاهاتها بخصوصيات إرث ثقافات متمايزة، لكل منها خصوصية أو خصائص تمايزها، لا مطابقتها أو تفوقها المطلق أو تماثلها مع ما عداها.

* كاتب فلسطيني

back to top