غياب الإطار وجدلية افتقاد الحوار!

نشر في 19-08-2008
آخر تحديث 19-08-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ بالتوازي مع الحديث عما أسمي تقدما في المفاوضات السورية- الإسرائيلية غير المباشرة في أواخر الشهر الماضي يوليو، ارتفعت وتيرة الجدل والسفسطة الكلامية الدائرة في شأن الحوار لمعالجة الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، في ما يمكن تسميته «الانقلاب الثاني» في أعقاب ما شهده القطاع من أعمال تفجيرية، وما تلاها من حالة هيستيرية من قمع واعتقالات طاولت الضفة الغربية أيضا. وذلك حين هددت حركة حماس بالقيام بما أسمته «انتفاضة ثانية» في الضفة الغربية.

وقد ترافقت هذه الجولة الجديدة من جولات الانقسام والتقاسم السياسي والجغرافي للشعب الفلسطيني ولوطنه، أو ما تبقى منه خارج الاحتلال المباشر في الجزء الجنوبي من فلسطين، مع حملة اعتقالات وقمع منظم وممنهج وعمليات تعذيب، أين منها حملات الاحتلال ضد مناضلي هذا الشعب المبتلى بقوى -للأسف- فقدت حساسية التحرر الوطني؛ إما على مذبح سلطويتها التاريخية، وإما على مذبح إيديولوجيتها وارتباطاتها الإقليمية، التي حولت مشروعها الذي يفترض أن يدور في الإطار الوطني العام؛ إلى مشروع إيديولوجي/ديني لا إطار وطنيا له. وهذه قوى ليست حرية بقيادة مشروع تحرر وطني.

«الانقلاب الثاني» المزدوج هذه المرة على ما يبدو، وبشهادة تقرير حقوقي دولي «هيومن رايتس ووتش» يتم اليوم في ظل معطيات هجوم إسرائيلي بـ«قبضة من حرير»، لا سيما في ظل معطى التهدئة الراهن في غزة الذي تم برعاية مصرية بين حركة حماس وحكومة أولمرت، وتحت غطاء من مفاوضات أمسى واضحا؛ علاوة على أنها لن تصل إلى نتيجة مرتجاة منها لا فلسطينيا ولا إسرائيليا، فإنها تحاول «تشفية» ما تبقى من لحم القضية الوطنية الفلسطينية، مقدمة لتقديم ما يتبقى من «هيكل عظمي» للشعب الفلسطيني على أنه الدولة العتيدة الموعودة، من دون أن تنتمي إلى هيئات الدول أو أشكالها البدائية حتى.

قبضة الاحتلال «الحريرية» في القدس، تتمادى في سلوكياتها الاحتلالية والتهويدية، وكأن لا مرجعية لأبناء القدس، تتبنى قضاياهم وتدافع عنها وتحمي مصالحهم وتطلعاتهم؛ في البقاء فوق أرض وطنهم كمواطنين، لا كسياح أو غرباء أو زوار موسميين. وهذا بالطبع ما يضع على عاتق السلطة الفلسطينية بمرجعياتها مهمة الدفاع عن مواطني المدينة، في مواجهة الهجمة الاحتلالية التي بدأت تتمادى في مصادرة هوياتهم أو حجبها ومنعها، وإيقاف حق لم الشمل عنهم، واتخاذ إجراءات عنصرية بحقهم، كل ذلك لإجبارهم على الرحيل ومغادرتها «مرة وإلى الأبد» مقدمة لتهويدها.

في كل ما يجري هنا أو هناك، يشكل افتقاد إطار التحرر الوطني واحدا من مسائل أمست عصية على الفهم، كما وعلى استيعاب الكثيرين الذين اختلطت المفاهيم في أذهانهم، إلى الحد الذي أضاعوا فيه بوصلة كانت تتجه إلى فلسطين على الدوام، وإذ بها تتناهبها المصالح وعُقَد النفوذ والتطلعات الإيديولوجية الخالصة، وتتناوب على الحط من نزوع ونزعات التحرر الوطني. وكل ما يهمها؛ استمرارية الهيمنة الإيديولوجية/ الدينية كممثلة لمصالح التنظيم الدولي ومصالح التحالفات الإقليمية، دونما أي اعتبار للقضية الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني، وتشبثا بسلطة لا معنى ولا وظيفة لها، خارج إطار تلبية المصلحة الوطنية العليا الممثلة لتحرر وطني ينزع للتكامل مع تحرر اجتماعي ناجز، وهذا أبعد ما يكون عن تفكير فصائل فئوية على اختلاف تياراتها، لاسيما التيارات المتنفذة والمتطرفة فيها، حيث أثبتت وقائع السنوات السابقة، أنها لم تكن على قدر المسؤولية التي أناطها بها الشعب الفلسطيني.

لهذا يكاد يكون من الاستحالة على قوى سياسية إسلاموية؛ أن تنتقل من إيديولوجياها المهيمنة، إلى أن تصبح بين ليلة وضحاها، أحد مكونات المشروع الوطني، والاندراج في الفضاء العام لما هو مشترك بين المكونات الوطنية كلها على اختلافها، بينما بقيت الشعارات اللفظية سيدة المرحلة، مع أن تجربة عملية تكتنف الآن ممارسة التيار الإسلاموي وتفضحه؛ تجربة سلطوية لم تضف سوى الإخفاقات والفشل في علاقته ليس الوطنية فحسب، بل والإيديولوجية مع أمثاله من تيارات ومنظمات إسلاموية مؤدلجة.

وبغض النظر عن مآل ومصير حزب «العدالة والتنمية» التركي، الذي يوضع على المحك الآن، فإن تجربته السلطوية، وهو يتحول ليتبنى منظورا ليبراليا خاصا، شكلت مصدر غنى لا يمكن نكرانه، حتى من جانب بعض العلمانيين الأتراك وغيرهم. إلا أن التجربة السلطوية لحركة حماس في قطاع غزة، فهي ليست مصدر فخر واعتزاز أحد، سوى بعض الذين يقامرون -وليس فقط يغامرون- بالمشروع الوطني الفلسطيني، وكانوا قد أرادوا تحويله إلى مشروع إيديولوجي ذي إطار ديني، وها هو على أيديهم يتحول فعليا تحولا يمنع تواصله الوطني مع قوى وطنية حقيقية، ممنوعة هي الأخرى من تكاملها الوطني في ما بينها، وذلك على مذبح الاحتكار السلطوي والمالي الفئوي للإطار التمثيلي الواسع وللتحالفات المفروضة بطريقة أو أخرى.

إن افتقاد الإطار العقلاني المتفق عليه لحسم الخلافات السياسية الوطنية بين أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، لن يوصل الحوار المقترح للمرة الثانية خلال أقل من شهر من جانب الرئيس محمود عباس، إلى أي نتيجة يرتجيها الواقع الوطني الفلسطيني لاستئناف مهام التحرر الوطني، ذلك أن الإطار المفتقد، إلى جانب افتقاد الحوافز الموضوعية للتخلى عن نزعات الهيمنة الذاتية على سلطة بلا مهام تنفيذية سوى ممارسة القمع وترهيب الخصم، هذا كله لن يكون مفهوما، إلا في سياق تماهي السلطة بمهام السلطات القمعية، وتكاملها بأفعال الهيمنة السلطوية الطبقية منها والإيديولوجية، على أن صراعا سلطويا كهذا، بين مكونات تحررية وطنية، أو الأحرى بين مكونين أساسيين يحملان سمات فئوية خالصة متمركزة حول الذات، لن يفضي بالتأكيد إلى استعادة المركز -الإطار- السلطوي لمصلحة الائتلاف الوطني الشامل، حتى يمكن القول إن الحوار سوف يفضي بدوره إلى إقامة توازن جديد في السياسة، يزاوج فعليا بين المهام الكفاحية التي يقع عبؤها على الوضع الوطني الفلسطيني برمته، كانعكاس فعلي للإرادة الوطنية، لجهة فرضها فعليا لمنطوق إطار إداري/ قيادي فعال، ينجح في إدارة الصراع وقيادته نحو أهدافه التاريخية الراهنة.

* كاتب فلسطيني

back to top