شعار الدولة الواحدة 3

نشر في 28-09-2008
آخر تحديث 28-09-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد استراتيجية نهضوية للتحرر الفلسطيني (4)

عاد أبو قريع وفلسطينون كثيرون اليوم للحديث عن الدولة الواحدة في سياق التعبير عن اليأس من تحقيق سلام تفاوضي في غضون بقية هذا العام أو في المستقبل عموما على ضوء الانطلاقة التي يشهدها الاستيطان الإسرائيلي في الضفة.

من الأرض إلى الشعب

وحقيقة الأمر أن طرح شعار الدولة الواحدة يرعب إسرائيل وقد يصلح ورقة قوية للضغط لتقريب الموقف الإسرائيلي التفاوضي في نهاية المطاف من الشرعية الدولية. ولكنه في حقيقته أبعد منالا من الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع.

والأهم أنه لا شعار الدولة الواحدة ولا شعار الدولة الفلسطينية في إطار حل التقسيم أو الدولتين يصلح لبناء مستقبل حقيقي لفلسطين ولا لتوجيه النضال الوطني الفلسطيني. فهو يبدأ بالأراضي وهي مهما كانت نفيسة وغالية لدى الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية والإسلامية ليست هي الشعب نفسه وليست هي الحياة الإنسانية. وإقامة التحرير على الأرض يزيف القضية ويسيء توجيه النضال.

الأرض جوهرية ولكن الشعوب هي التي تعطي للأرض معنى والتحرر يكون للشعب الذي يناضل من أجل الأرض ويجب أن يكون لنضاله كفاءة واقتدار حتى يستعيدها ويصنع منها شيئا يضيف إلى الماضي البعيد المجيد. ومن هذا المنظور لابد من مراجعة دقيقة لاستراتيجيات نضال الشعب الفلسطيني وتحديدا شعار النضال المسلح.

وفي رأيي أنه لم يكن من الممكن أبدا استبعاد النضال المسلح في الماضي ومع انطلاق الثورة الفلسطينية. كما أنه لا يمكن استبعادها من الحاضر أو المستقبل. فالنضال المسلح ليس مجرد حق تمنحه الفطرة وقيم العدل والحرية فضلا عن نصوص القانون الدولي العادي والإنساني. إنه أيضا أداة مقتدرة ولو في حدود ودائما مع دراسة الزمان والمكان. غير أن اعتباره استراتيجية للتحرير يتجاهل تماما الخبرة به طوال نصف قرن وكان نصف القرن الأفضل بالنسبة لشروط الصراع الدولي وخبرة النضال العربي.

كوارث استراتيجية النضال العسكري

يتجاهل القائلون باستراتيجية النضال العسكري أنها أدت إلى إهدار حياة عشرات الآلاف من خيرة الشباب الفلسطيني وأفضلهم عقلا وقدرة من دون عائد أو نتيجة إيجابية. قتل وجرح في نضال عسكري شبه يائس من الخارج عددا غير محدد ولكنه يقدر بعشرات إن لم يكن مئات الآلاف مقابل بضعة آلاف إسرائيلي على أحسن تقدير أغلبهم فقد حياته في العمليات الاستشهادية وليس في عمليات الاختراق من الخارج.

وتتجاهل استراتيجية النضال العسكري أن الأغلبية الساحقة من عمليات الاختراق الداخلي فشلت وأن العمليات الاستشهادية لم تحظ بتعاطف عالمي بل إنها هي تحديدا التي قادت إلى فقد تعاطف أوروبا وسائر المجتمعات والمناطق الأخرى خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر.

وبطبيعة الحال لا يمكن أبدا أن نقلل من البطولة والفداء الذين ميزا عمليات الاختراق العسكري من الخارج أو العمليات الاستشهادية من الداخل. غير أنه لا يمكن أبدا التعامل معها وكأن قصدها إثبات البطولة وليس حصد عائد سياسي حقيقي.

وأهدر النضال العسكري بكل صورة استقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية. بل كان وراء اختراقها وتتبيعها من جانب مختلف الأجهزة المخابراتية العربية التي حاولت مصادرته لحسابها بمختلف الوسائل.

وأدت استراتيجية النضال العسكري أيضا إلى قطيعة تامة مع المجتمع الإسرائيلي الذي تطرح فكرة الدولة الواحدة التعايش معه. كما أنه انتهى في السنوات الثماني الماضية إلى إعادة هيكلة السياسة الإسرائيلية لمصلحة اليمين المتطرف.

معايير النهضوية

وعادة ما ينتهي نقد الاستراتيجية العسكرية إلى منطق يدعو للاستسلام. وهذا هو أبعد ما يمكن أن ننتمي له من أفكار. ولكننا في نفس الوقت نطرح استراتيجية بديلة كلية لا تنفي الحق العسكري بل قد تستدعيه في جوانب أو في لحظة معينة وهي استراتيجية النهضة الشاملة بالمجتمع الفلسطيني.

تبدأ هذه الاستراتيجية بقرار تجاوز رد الفعل الكاره للنظام العالمي بسبب كونه أسند عملية بناء إسرائيل. والتجاوز لا يعني الغفران ولا النسيان إنما معناه فهم الميكانيكية المعقدة لإعادة بناء التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني. وبصريح العبارة فإن الإسناد الحقيقي المحتمل للشعب الفلسطيني في نضاله لن يأتيه من النظم العربية ولا حتى من المجتمعات العربية في المدى المنظور بل من أمم وشعوب تدربت على النضال الديمقراطي بما فيه النضال من أجل العدالة الدولية أي أوروبا الغربية وأميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا وبدرجة أقل من بعض دول آسيا ومجتمعاتها.

ويتلو ذلك إدارك أن الهدف من استراتيجية النهضة هو إعادة التمركز حول الشعب الفلسطيني وليس حول النظام العربي أو أي بديل آخر إسلامي أو غير إسلامي. التمركز الممكن حول الشعب الفلسطيني يعني أن المعركة حضارية كما كررنا لوقت طويل دون أن نعطي لهذا المصطلح مضمونا. والمعركة الحضارية تعني في نفس الوقت بناء الإنسانية الفلسطينية وصورة المجتمع الفلسطيني المرغوب والنضال لوضع هذه الصورة موضع التطبيق ولو في ظل الاحتلال ورغم أنفه. ولابد أن تمتزج في صورة المجتمع المرغوب هذه أفضل ما أبدعته البشرية وأطيب ما في حدائق التراث العربي الإسلامي. ولو نجحنا في بلورة صيغة خلاقة تجمع بينهما في فلسطين ولدى الشعب الفلسطيني نكون قطعنا نصف الطريق أو أكثره للتحرر.

إن أول ما سيفوز به الشعب الفلسطيني هو التحرر من صورة الإسرائيليين عنه كمجتمع عنيف وفاسد ويحب الاستبداد ولا يعترف في الممارسة بالفضاء أو المصلحة العامة. استراتيجية نهضة ناجحة لفلسطين تعني تلقائيا هزيمة صورة إسرائيل للعدو وتحقيق الفلسطينين نصف انتصارهم الفعلي. وقد تعيد هذه الاستراتيجية الفلسطينية هيكلة معاكسة (لما جرى في سنوات الانتفاضة) للسياسة الإسرائيلية. والأهم أنها تسلب إسرائيل لا فقط زعمها عن التفوق الأخلاقي بل صلاحية القتل المباح وعنصريتها الفجة.

وأخيرا فاستراتيجية نهضوية تعني في الشكل على الأقل شيئا معاكسا لما فعلته استراتيجية النضال المسلح وهو تحضير الشباب الفلسطيني للامتياز في الأداء الحي وليس تحضيره للموت ولو أسميناه شهادة واستشهادا.

فالتحرر في هذه الدنيا هو معركة حياة وليست إطلاقا معركة موت، وهو أيضا معركة صور متبادلة تنتصر الواحدة على الأخرى فتجرده من مبررات وجوده وإيديولوجيته السائدة، ونأمل أن ننتصر نحن على إسرائيل في معركة الأداء هنا في هذا العالم واليوم قبل غدا. والمقصود ليس التفوق الفعلي اليوم أو غدا بل التحضير لهذا التفوق عبر نظرة أخلاقية جديدة تعيد أنسنة الصراع وتوضح مضمونه كمعركة عالمية ضد العنصرية الإسرائيلية والاستثنائية الممنوحة للمجتمعات الاستيطانية ذات البعدالعقائدي أو الديني كما هي الحال بالنسبة لإسرائيل.

المضمون العملي

وأخيرا يأتي «حشو» أو تفاصيل الاستراتيجية النهضوية، وأهم هذا الحشو يأتي من الفكر العالمي الجديد باسم التنمية البشرية، والمقصود هو الاستثمار في انطلاقة قوية لنظام التعليم والتدريب والفنون والآداب والثقافة عموما والرياضة وفي البحث العلمي والتكنولوجيا ونظم إدارة مرافق الدولة والمجتمع.

ذلك كله يتم عبر بناء نظام سياسي في الأرض المحتلة يقود هذه الاستراتيجية ويطبقها. ويبدأ هذا النظام بداهة بالتحرر من الاستبداد والفساد وهي الثنائية التي هزمت الشعوب والمجتمعات العربية وتخرج العرب من التاريخ والمستقبل العالمي وتجعلهم أمة مدانة ومهمشة عالميا وتضمن انفراد وانتصار إسرائيل في العالم.

وبداهة فإن هذه الاستراتيجية تستلزم تعبئة طلائع الشعب الفلسطيني في مختلف ضروب التفوق في الأداء الثقافي والبشري والاقتصادي بما في ذلك التفوق في البزنس والاقتصاد والإدارة الاقتصادية والعلمية واستعادة المتفوقين في المنافي الفلسطينية الواسعة التي تنتشر من الهند حتى أميركا الجنوبية.

ويتم تحشيد هذا التفوق لإنجاح استراتيجية تقوم على إلغاء المسافة بين مستويات الأداء الإسرائيلي في مجالات العلم والتكنولوجيا والإدارة المادية فضلا عن تثمير التفوق الإنساني لدى أبناء الحضارة العربية الإسلامية.

والواقع أنه يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية بغض النظر عن الاحتلال، غير أنها ستكون الاستراتيجية الوحيدة المفيدة في التحرير الحقيقي حال بناء دولة فلسطينية مهما كان حجمها في الأمد القصير، وسيكون النجاح في تطبيق هذه الاستراتيجية هو المعبر الحقيقي بين شعار دولة فلسطينية كاملة السيادة والحل القائم على دولة بناء دولة ديمقراطية علمانية في كل فلسطين تحت الانتداب.

back to top