زرقاء اليمامة: الغائبة الحاضرة أمي!

نشر في 25-01-2008
آخر تحديث 25-01-2008 | 00:00
 الجوهرة القويضي تسكنين ملامحي منذ تكويني، تفرحين فأرى في ابتسامتك الجميلة الهناء يشع في أوصالي، وقلبك الرقيق يلامس حلمي، تشاكسين غربتي، تكرهين غيابي، تستهوين تدليلي رغم نضجي، بنظرك لاأزال تلك اليانعة الصغيرة الوحيدة التي تخافين عليها، تشتهين قربي في كل أيام السنة، جئت إليكِ مذعورة تخافين أن ترحلي من هذه الدنيا قبل أن أكون معك، غيابي عنك يقلقكِ، جئت إليكِ ياغنوة الحياة مذعورة، كنت أظن أنّ لنا أياماً طوالاً نتحدث ونتناغم.

زوار زائرات يكتظ البيت الكبير بهم، لا أهجع حتى في ليل التعب، أنكبّ على الحاسوب لأكتب، لا تعارضين كعادتك، كنت أحسب أنك تطمعين في وجودي أكثر لذلك تتركينني على راحتي حتى أبقى معكِ، أواه يا أماه!! تأمُّلي يقتات طعم السؤال المرّ، وبداخلي غيمات حزن تنتاب كلّ واحدة الصحوة والخدر، أي شمس؟! وأي ضوء سيشع في داخلي من دونك؟! تراود إرادتي صبري وتقدّ قميصاً لا يتوارى، صرتُ أهيم كشاعر عاشق يحمل منديل حبيبته يظنّه يحمل نعشاً يوارب خلف هزيمته ونوحه، تلك هي ساعة الصدمة الأولى لحظات احتضارك الذي كان بغفوة منّي والتفتُّ لا أجد إلا عينين مغمضتين ونَفَساً صاعداً إلى ربه، وبكل هدوء لأفزع ويتسلل الهلع والخوف والخدر معاً، لأدعو بكل تضرع لله «الصبر يا الله، الصبر يا الله»، جافاني الهدوء وأقلق روحي القلق، وغمرني الحزن، وهرعنا لتوديعها، كنتِ تبتسمين بأسنان الذهب ووجه مضيء وليونة في الأطراف.

هينة في رحيلها روحك الصاعدة للباري، وهينة في توديعها، والمصاب كان أشد من أي فقد، أواه يا أماه...!! يا شمسي الغائبة الحاضرة في شراييني، كلما غابت الأعين والأحبة عني كنتِ معي في غفوتي وسهري ودعائي وسجودي، أواه يا أماه!! من كانت تتابع رغبتي وسؤالي، من كانت كملكة تتوّج في كل حضور، هيبتها، حكمتها، رزانتها، ثقتها بنفسها واعتزازها، تديّنها، تقرّبها من الله في السرّ والعلانية، كريمة حتى الإفراط في الرحمة والسؤال وصلة الرحم، يا إلهي كشمس أدفأتنا وغابت في فجر شتاء زمهرير 15 يناير في السابع من محرم، كان أشد يوم حزين في حياتي، غبت عن الوجود وصار وجودي ملتفّاً حولها بالدعاء، غادرت إلى البيت العتيق لأهبها العمرة والدعاء لها بأن يختار الله لها بيتاً أفضل من بيتها، وأهلاً أفضل من أهلها، وأن يهبها الفردوس الأعلى، وفي غمرة دعائي وقبلتي للحجر الأسود، قال شقيقي، كما قال عمر رضي الله عنه: «أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولكني أقبّلك كما قبّلك الرسول صلى الله عليه وسلم»، وأقبلت على قبلة للحجر الأسود وانشرح خاطري وصدري وجذبتني طاقته جذباً غير عادي مع طاقة الدعاء، حملوني لارتفاع منبسط، أتساءل: هل يتسلل شبح النسيان إلى أروقة الذاكرة؟ وهل تجرؤ الذاكرة ألا تتذكرك يا لحن وجودي؟ يا نشيد ذاكرتي التي افتقدتها بكل جوارحي، تتلفت روحي ملتاعة شوقاً وعطشاً لحضنك، تتلقفين ذبذبات حزني وتجمعين نثار الحيرة لترتيبها في آنية الرضا، وتمسحين الدموع داخل النفس قبل أن تتبلور في العيون، أفتقدك يا كلاًّ مني، على ضفاف سنواتي شذاك، لم أزل أقف على عتبات الجرح الجديد، وكيف لحضورك الباهر أن يحكمه الغياب الأبدي؟ ستبقين حاضرة رغم غيابك، وستكونين كما كنتِ منذ تكويني تسكنين وجودي، ألهمني يا الله الصبر، وبلسم جرحي بيقين منك يا الله، إنك سميع مجيب.

شكراً لكل من واساني في الفقيدة أمي وعلى المقدمة أسرة تحرير جريدة «الجريدة»، وجرائد الرياض، وأعضاء رابطة الأدباء، والأهل في الكويت والرياض.

وقفة شفافة:

جديد الجرح ما جئت لأعلنه بحزني أو لأبشر بقدرة الأيام على اختراع النسيان، ثمة أحياء يبقون أكبر من النسيان وذكراهم أقوى من الحياة، عليكِ أمي حزن لا يعرف الموت.

back to top