الجنين المشوه

نشر في 22-11-2007
آخر تحديث 22-11-2007 | 00:00
 د. عبدالمطلب فيصل البلام

إن الاختلاف بين الخلايا جزء من واقع الأجساد الإنسانية، وهو شيء إيجابي يؤدي إلى تكوين جسد متنوع المهارات ومتعدد الإبداعات، وأغلبية العقول العربية والإسلامية تعتبر الاختلاف مذمة ومهلكة لجسد المجتمع، وعائقاً كبيراً في طريق الوصول إلى مجتمع المدينة الفاضلة، لذلك تحاول وبشتى الطرق إلغاء الاختلافات حتى لو كان ذلك على حساب التنمية والتطور.

يحكى أنه في أحد الأرحام التقى حيوان منوي ببويضة، فتكونت خلية أولية لجنين إنساني، ثم انفلقت هذه الخلية إلى عدة خلايا، كانت تميل كل منها لسلوك معين، من ضمن هذه الخلايا، كانت هناك خليتان شاذتان، تميل احداهما إلى الرقص والأخرى إلى الغناء، وبينما كانت اغلبية الخلايا في طور الانفلاق والانشطار لتكوين بقية خلايا جسد هذا الإنسان الجديد، ذهبت مجموعة تمثل أغلبية الخلايا إلى هاتين الخليتين وقالت لهما «إن الاختلاف بين ميول خلايا الجسد الواحد شيء سلبي ومذموم، وهو دليل ضعف وتفكك. لذلك، وقبل أن يكتمل انفلاقنا جميعاً لتكوين بقية خلايا هذا الجسد الإنساني القادم، نحن نطلب منكما أن تنبذا الغناء والرقص المبتذل، وتتصفا بصفاتنا المحمودة المهذبة، وتتبعا سلوكنا العفوي والفطري، بهذه الطريقة ستتشابه ميول خلايا الجسد كافة، فيسهل التعاون في ما بيننا لبناء الجسد المثالي المنتظر».

استغربت الخليتان من كلام هذه الخلايا، فجاوبتا بكل تذمر «من أين أتيتم بهذا المنطق؟! إن الاختلاف بين الخلايا جزء من واقع الأجساد الإنسانية، وهو شيء إيجابي يؤدي إلى تكوين جسد متنوع المهارات ومتعدد الإبداعات، ثم دعونا نسألكم... لماذا نحن مَن يجب أن يتغير ليتحلى بصفاتكم وسلوككم؟... هل ترتضون أن تتصفون أنتم بصفاتنا بدلاً من أن نتصف نحن بصفاتكم؟».

هنا جاوبت مجموعة أغلبية الخلايا بكل ثقة: «لا لا لا... نحن أغلبية، ولذلك يجب عليكم كأقلية أن تتبعوا ما نقوله لكم، بالإضافة إلى أن صفاتنا هي أمثل وأنقى من صفاتكم، وسلوكنا البيولوجي هو تطبيق حرفي لسلوك الخلية الأم، ولا مجال مطلقاً للتخلي عن هذا السلوك العظيم».

فردت الخليتان «كلام غير صحيح... لو سألتم كل خلية في هذا الجسد، على حدة، لقالت إن صفاتها هي الأمثل والأنقى، وان سلوكها تطبيق لسلوك الخلية الأم، إن ماهية سلوك الخلية الأم وتعريفها، هو شيء نسبي تقرره البيئة والتركيبة البيولوجية للخلية نفسها، أما بخصوص أن كونكم أكثرية... فهذا لا يخولكم التحكم بسلوك الأقلية، ما هكذا تطبق ديموقراطية تكوين الجسد».

فردت مجموعة أغلبية الخلايا بعنف «بل إن ما تقومان به من سلوك رقص وغناء هو مفسدة لمجتمع الخلايا الحالية ولأجيال خلايا الجسد القادمة من بعدنا، إن عملكما المتحرر من قيود قوانين سنن الأجساد، غير المتناسق مع ميول بقية الخلايا، بعيد كل البعد عن الهدف الأساسي الذي وجدنا نحن من أجله، نحن لم نسمع أن الخلية الأم كانت ترقص أو تغني... فمن أين أتيتما بهذه البدعة؟».

هنا جاوبت الخليتان مدافعتان عن نفسيهما «نحن لم نبتدع الرقص والغناء لهواً، بل هو شيء يناسب تكويننا البيولوجي، نحن لدينا تركيبة تختلف عن تركيبتكم وذات تختلف عن ذاتكم، فنحن سنتحولان إلى عضوين أحدهما يمشي والآخر يتكلم، فلماذا تريدوننا أن نتصفا بصفات لا تناسب تكويننا؟ نحن لدينا مفهومنا الخاص للسلوك الأمثل، فكيف تريدوننّا أن نعملا بسلوك لا نؤمنان به؟ أما كون الخلية الأم لم ترقص وتغني فهذا لا يبرر لنا منع الرقص والغناء، إن الزمان والمكان تغيرا، فما كان يناسب الخلية الأم ليس بالضرورة يناسبننا، لم لا تتركوننّا وتتركون الخلايا التي ستنتج عنّا نعيش بالطريقة التي نرتضيها؟ بالمقابل، نحن نعدكما بأن نترككما تكونون كما تريدون، بشرط ألا يتعدى أحد على حرية سلوك الآخر، لنتعاون معاً لخدمة هذا الجسد الذي نعيش فيه، لتضحوا أنتم ببعض من سلوككم، كما أننا سنضحيان ببعض من سلوكنا حتى نصل إلى صيغة اتفاق وسطية تعبر عن سلوك عام يرتضيه جميع خلايا الجسد».

لم يرق لمجموعة أغلبية الخلايا ما قالته هاتان الخليتان، فجاوبت بحزم قائلة «اسمعا يا من ضللتما طريق الجماعة الحق... إن السلوك الأمثل المنقول عن الخلية الأم لا يقبل أنصاف الأمور، فهو سلوك ثابت ومقدس. إن أفعالنا مرآة لهذا السلوك، ويجب أن يُطبق حرفياً ويفرض عليكما وعلى بقية الخلايا التي سوف تنفلق من بعدكما، والآن... هذا ليس طلباً بل أمر يجب أن تنفذاه، لن ندعكما تفسدان الجسد وتفشلان تكوينه نتيجة سلوككما المنحرف».

حينها قالت الخليتان الراقصة والمغنية «بل إن الجسد سيفشل يا أخوتنا إذا جعلتمانا وجعلتم ما ينفلق عناّ خلايا لا تعبر عن طبيعتها».

قالتا قولهما هذا ثم استسلمتا لمطالب أغلبية الخلايا، فتوقفتا عن الغناء والرقص.

بعد تسعة أشهر... خرج الجنين من هذا الرحم متعافياً، لكنه... من دون أرجل ولسان!

انتهت

****

أغلبية العقول العربية والإسلامية تعتبر الاختلاف مذمة ومهلكة لجسد المجتمع، وعائقاً كبيراً في طريق الوصول إلى مجتمع المدينة الفاضلة، لذلك تحاول وبشتى الطرق إلغاء الاختلافات حتى لو كان ذلك على حساب التنمية والتطور، يا ترى... كم عدد المجتمعات المشوهة خلقياً التي تتبناها أمتانا العربية والإسلامية؟!

* أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الكويت

back to top