فيينا في عيون ستيفان تسفايغ

نشر في 07-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 07-11-2007 | 00:00

ينظر مؤرخو الثقافة عادة الى مدينة فيينا النمسوية باعتبارها النبع الذي تفجرت منه حداثة القرن العشرين. هذا ما لاحظه الصحافي الاميركي فريد زكريا في كتاب «مستقبل الحرية». تكمن عراقة فيينا في أنها كانت موئل الثقافة والتحليل النفسي الفرويدي وفن الأوبريت والموسيقى الكلاسيكية والأدب الدرامي.

لم يتولد هذا الرأي عند النقاد والمؤرخين اعتباطياً. إلى جانب كون الفنون والآداب ولدت في فيينا، يلاحظ الروائي والشاعر والفيلسوف والمؤرخ ستيفان تسفايغ أن الأهم هو في الترابط الذي نشأ بينها، وذلك من خلال كتاباته عن سر هذه المدينة في مذكراته التي ترجمت الى العربية في عنوان «عالم الأمس» وصدرت حديثا لدى دار المدى.

تنطوي مذكرات تسفايغ على شهادة مهمة يمكن أن تشعر القارىء أنه أمام وثيقة مفصلة تشرح حال جيل كان الشاهد على حداثة مدينة عريقة وكان له دوره الفعّال رغم أنه عرف مرارة الحروب. يستهل تسفايغ مذكراته بالحديث عن رخاء تلك المرحلة المبكرة من حياته حيث كانت فيينا رمزاً للأمان والدعة لا يعكر صفوها إلا المدرسة الصارمة والدروس التقليدية، اذ كان الطلاب يختارون نيتشه كبديل عن الدروس الروتينية. رغم ان تسفايغ ولد بين أحضان أسرة يهودية ميسورة إلا انه وجد في المدرسة سجناً لا تحتمله الطفولة المنطلقة إلى معانقة الحياة بلا قيود. إنطبعت تلك المرحلة المضنية في ذاكرته حتى بلوغه الستين أي لدى تدوينه هذه المذكرات. المفارقة أنه اعتبر هذا الضغط المدرسي السبب في «الانبعاث المبكر إلى الشغف بالحرية والكراهية لكل أشكال السلطة».

يوثق تسفايغ تفاصيل الحياة في القارة الأوروبية في الربع الأول من القرن العشرين ، نقرأ عن المراحل الأدبية والفنية في مدن أوروبية كثيرة خصوصا فيينا وباريس، لا سيما الصحف التي كانت تصدر آنذاك ونشاطات دور المسارح والأوبرا والاتجاهات الأدبية ومدارس الفن التشكيلي... وغيرها من المسائل التي تجعل من الكتاب شهادة تاريخية عن عالم الأمس وعن حيويته، مكتوبة في قالب أدبي مدهش يدعو الى التأمل في كل تفاصيله. يكتب تسفايغ ان الدافع الى المثل الثقافية لم يكن في أيّ مدينة أوروبية قوياً كما كان في مدينة فيينا ويعزو السبب إلى أن النمسا ذاتها لم تكن لديها على مدى قرون مطامح سياسية ولم تكن ناجحة عسكريا، فدفعتها الكبرياء إلى التركيز على الرغبة في التفوق الفني من موسيقى موزارت وبتهوفن الى جوهان شتراوس. يقول تسفايغ «نحن نعرف أنّ فيينا كانت مدينة مرهفة الذوق متعلقة بالمتع الحسية ولم يكن الإنسان العادي يهتمّ بقراءة اخبار البرلمان او شؤون العالم في صحف الصباح، بل كان يتابع مواعيد عروض المسرح المقبلة. كان المشاهد يرى في الممثل قدوة حسنة يتعلم منها كيف يلبس ثيابه، كيف يتعامل مع الناس، كيف يتحدث. لم يكن المسرح مجرد مكان للترفيه، بل المرشد الشفويّ للسلوك السليم. كان من الممكن أن يسير رئيس الوزراء في شوارع فيينا من دون أن يلتفت اليه أحد، اما الممثلون ومغنو الأوبرا كانوا يستحوذون على انتباه الفتيات في المتاجر وسائقي المركبات. حرك هذا التعصب للفن، لا سيما فن المسرح، مشاعر كل الطبقات في فيينا».

يضيف تسفايغ: «ان تراخينا، نحن النمسويين، في القضايا السياسية وتخلفنا في الاقتصاد مقارنة بالجارة المانيا، قد يعزيان جزءا من انغماسنا المفرط في المتع الحسية». حتى المقهى في فيينا كان مؤسسة خاصة لا مثيل لها في العالم. انه في الواقع أشبه بالنادي الديموقراطي لا يكلف دخوله الا ثمن فنجان قهوة. بعد دفع هذا الثمن البخس، يستطيع الزائر ان يجلس ساعات طويلة، يناقش، يكتب، يلعب الورق، يتسلم رسائله.

آمن تسفايغ بقول بلزاك: «كان أصحاب الشهرة في نظري آلهة لا يتكلمون ولا يأكلون كالآخرين». هنا يسهب تسفايغ في وصف شخصية المبدع الذي يجلس أمامه ويتحدث بطلاقة. غالبا ما يسبغ نوعاً من القداسة على مثل هذه اللحظات، فهو يعتبر ان الروائيين والشعراء هم «بُناة العالم» وله في هذا المقام كتاب يحمل العنوان ذاته ويتحدث فيه عن تجربة ستة كتّاب كبار أسهموا في بناء العالم أخلاقيا وجماليا وروحيا هم: هولدرلن، دوستويفسكي، بلزاك، ديكنز، تولستوي، ستاندال.

أدباء

يفرد تسفايغ في مذكراته مساحة واسعة للكتاب اللامعين من أبناء جيله أو من الأجيال التي سبقته ويغوص في تفاصيل حياتهم، وكان أصدر من قبل كتباً عن الأسرار التي اكتنفت مصائرهم. يتحدث عن أجواء إحدى الأمسيات للشاعر ييتس التي حضرها في لندن ويصف مشاعره لدى زيارة محترف رودان في باريس ويتحدث عن الشاعر الألماني ريلكه الذي أحبه، والتقاه في مناسبات عدة، يقول: «هذا الرجل ذو الشارب الأشقر المتدلي الكئيب قليلا والسيماء شبه السلافية، ربما مر به آلاف المارة من غير أن ينتبهوا أنه شاعر وأنه أعظم شعراء جيلنا. كانت له طريقة رقيقة لا توصف في الحديث. كان يتكلم ببساطة وبحب تماما مثل الأم التي تحكي لطفلها حكاية من حكايات الجن «. يبدي تسفايغ إعجابه بقصائد هذا الشاعر: «لم يدع ريلكه شيئاً يغادر يديه قبل أن يكتمل». بمثل هذه الحفاوة البالغة يتحدث عن لقائه مع مكسيم غوركي في موسكو ومع اندريه جيد في باريس ومع فرويد. إن أول ما جذب انتباهه في زياراته الكثيرة إلى المدن الأوروبية وأميركا كان في اقتفاء أثر العظماء والبحث عن جذورهم. كان يطلب من أصدقائه في تلك البلاد مرافقته لزيارة أضرحة الشعراء والروائيين والموسيقيين.

رسالة

لم يكتب تسفايغ مذكراته كرسالة وداع، لأنه كان مشروعاً قديماً أشار اليه أحياناً كثيرة في أوقاته السعيدة. في آخر زيارة له الى الولايات المتحدة، أقبل على كتابته بكل حيوية، أنجز قسماً منه خلال إقامته في فندق ويندهام في نيويورك ثم أكمل القسم الأعظم في مطلع صيف 1941 .الفصل الوحيد الذي كتبه في البرازيل كان «أول الشباب» وهو لم يستدرك في هذا الفصل ما فاته بأيّ حال من الأحوال، بل عزا سبب التأخير إلى الرغبة في التفكير في الصورة الصحيحة التي ينبغي أن يتخذها مثل هذا الموضوع الحساس.

ولد تسفايغ، كما يقول، في الإمبراطورية النمسوية التي كانت تحكمها سلالة هبسبورغ. نشأ وترعرع في فيينا مدينة المتاحف والفنون ودور الأوبرا. يقول: «في الفترة الواقعة بين نمو شعر لحيتي والوقت الحاضر الذي أخذ يخط فيها الشيب، في نصف القرن هذا، حدثت تغيرات وتحولات جذرية أكثر مما حدث في عشرة أجيال من البشر! إن حاضري وكل يوم من ماضيَّ، نهضاتي وعثراتي، هي من التنوع بحيث اشعر أحيانا كأني لم أعش حياة واحدة، بل عدة حيوات كل واحدة منها مختلفة عن الأخرى».

انتحار

انتحر تسفايغ وزوجته في البرازيل في 22/2/1942. أكد في رسالته التي تركها وراءه «قبل مفارقتي الحياة بإرادتي الحرة وفي صحة من عقلي أنا مرغم على الوفاء بالتزام أخير، أن أقدم شكري الصادر من القلب الى البرازيل، هذا البلد الرائع الذي وفر كرمه لي ولعملي كل أسباب الراحة. لكن من بلغ الستين من العمر يحتاج الى طاقات غير عادية حتى يبدأ بداية جديدة. ما لدي من طاقات استنفدتها خلال أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختم في الوقت المناسب وأنا منتصب القامة حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الأصفى والحرية الشخصية الأنقى. تحياتي الى كل أصدقائي، عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل وها أنذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماماً».‏

back to top