ليبرالية بوتو وتصاميم Victoria’s secret

نشر في 10-01-2008
آخر تحديث 10-01-2008 | 00:00
 نديم قطيش

مما لا شك فيه أن الاغتيال المروع لبوتو حرم باكستان من طاقة سياسية استثنائية يمكنها أن تهيئ بلادها لمستقبل أفضل من ذاك الذي يعدها به الجنرال برويز مشرف، لكن الأكيد أيضا أن سيرة بوتو السياسية تلقي الضوء على قصور النموذج الليبرالي الذي تقدمه الدول الإسلامية «العالمثالثية».

كانت الخطابات الأخيرة لبينظير بوتو عالية النبرة حيال الأصوليين وتنظيماتهم المتشدّدة في باكستان، وهي ناصبتهم العداء داخل بلادها على نحو جعل اتهامهم بالمسؤولية عن اغتيالها مجرّد تتمة منطقية لاكتمال مشهد الجريمة. بل ذهب معلقون دوليون بارزون إلى اعتبار أن اغتيالها لا يزيل شخصية سياسة فذة فحسب، بل ربما يقضي على فكرة باكستان الليبرالية والمعتدلة.

غير أن هذه السيرة المنبثقة من لحظة الاغتيال واللحظة السياسية التي كانت تتهيأ فيها بوتو لخوض الانتخابات البرلمانية، والتي تضع الزعيمة الباكستانية في خانة «ليبرالية» بالغة الوضوح، في مواجهة الأصولية تقفز فوق إشكالية «إسلامية-عالمثالثية» تتصل بصلب كيفية أن يكون المرء ليبرالياً في هذه البقعة من العالم، ولعل بينظير بوتو تجسد في مسارها السياسي وموتها تعقيدات هذه الإشكالية في بلد لايزال يعيش أزمة تشكل هويته الوطنية وعلاقة الإسلام بها.

فالزعيمة الليبرالية وابنة قاعات التدريس في أوكسفورد وهارفرد أدركت مبكراً مخاطر تفشي الأصولية في بلادها وضرورة محاربتها، لكنها لم تتوانَ عن لعب الورقة الأصولية في سبيل إضعاف الخصم الأفغاني بانتهازية طفولية لا تدرك تبعات توظيف المشروع الأصولي الإسلامي.

قبلها، انقلب والدها، الاشتراكي العلماني، ذوالفقار علي بوتو إلى وجهة إسلامية عقب الحرب الأفغانية-الباكستانية طمعاً في كسب التأييد العربي وفي إسباغ مشروعية إسلامية على معركته مع «جماعتي إسلامي» وغيرها من التنظيمات الأصولية. كما كان الإسلام غطاءً لانقلاب الجنرال ضياء الحق على بوتو وإعدامه لاحقاً بالإضافة إلى استخدام الأصولية الإسلامية بدعم من واشنطن في مواجهة التغلغل السوفييتي في أفغانستان. كما لم يتوانَ نواز شريف بدوره عن لعب الورقة الإسلامية في مواجهة بينظير بوتو.

وإذا ما أشارت السير الواردة أعلاه إلى شيء، فهي تشير إلى التباين الشديد في ارتباطها بقيم علمانية وليبرالية، وإلى التحديات التي تحفّ بأي توق ليبرالي حين يتعلق الأمر بالإسلام كحالة سياسية أو جهادية. حينذاك، يصير الالتصاق بالغرب تعويضاً عن انتكاسة المشروع الليبرالي على المستوى الوطني ويتحوّل القصور عن بلورة مشروع تحديثي للإسلام السياسي تلطياً ثقافياً وإعلامياً وراء الغرب على النحو الذي كانته بوتو، أي صور صارخة للمرأة المسلمة القادرة على حكم ثاني أكبر بلد مسلم في العالم... ولكنها مجرد صورة وحسب.

وعليه لم تترجم ليبرالية بوتو المحتفى بها، سياسة حكمٍ إبان توليها رئاسة الوزراء مرتين قي تاريخ باكستان الحديث، حيث تميّز عهداها بانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان وبفضائح فساد طالت زوجها آصف علي زارداري.

على هذا النحو ظلّت ليبرالية بوتو ميزة شخصية وبطاقة انتماء إلى النخبة الثقافية والسياسية الدولية من دون أن تنعكس على نمط الحكم في باكستان أو تركيبة حزب الشعب الذي تزعمته والذي بقي محكوماً بالمنطق القبلي. ولعلّها واحدة من المفارقات البالغة الدلالة على حدود الليبرالية الشخصية في بلد كباكستان أن تؤول زعامة الحزب إلى نجل بوتو ابن الـ 19 عشر عاماً بدلاً من رئيس رابطة محامي المحكمة العليا اعتزاز إحسان أحد أبرز رموز المعارضة والأقدر على تحديث حزب الشعب. أما السبب فهو تحدر إحسان من إقليم البنجاب في مقابل سندية (من إقليم السند) قاعدة حزب الشعب وبوتوية (من قبيلة بوتو التي تعد 700000) زعامته.

مما لا شك فيه أن الاغتيال المروع لبوتو حرم باكستان من طاقة سياسية استثنائية يمكنها أن تهيئ بلادها لمستقبل أفضل من ذاك الذي يعدها به الجنرال برويز مشرف، لكن الأكيد أيضا أن سيرة بوتو السياسية تلقي الضوء على قصور النموذج الليبرالي الذي تقدمه الدول الإسلامية «العالمثالثية» حين لا يكون في متن مشروعها مواجهة الإسلام السياسي مواجهة ثقافية وقيمية وسياسية صارمة لا مواربة فيها في سبيل إقامة الدولة الحديثة خارج النص الديني وتأمين كل السبل الآيلة لانتصار القانون على الفقه.

سيرة بوتو تقول بوضوح إنه لا يكفي الولع بتصميمات Victoria’s Secret للملابس الداخلية المثيرة مصداقاَ على التقدم والحداثة (وهي كانت مولعة بها) كما لا تكفي تلبية المحاضرات في مراكز الأبحاث الأميركية مصداقاً على العمل من أجل تقدم الديموقراطية. إنه العالم الثالث... المحك هو الإسلام.

* كاتب لبناني

back to top