لا للإنسانية

نشر في 29-11-2007
آخر تحديث 29-11-2007 | 00:00
 د. عبدالمطلب فيصل البلام

إن الإنسانية مصطلح يوحد ربما أفراد جنس الإنسان تحت لواء واحد وشامل، ولكن في المقابل يعزلهم ويفصلهم عن بقية عناصر الطبيعة كالحيوانات والنباتات وما شابهها، وهذا الفصل هو مصدر أغلبية ما نسميه بالأفعال غير الأخلاقية (الشرية) التي يمارسها الإنسان.

في خضم البحث عن بدائل للمصطلحات الفكرية العنصرية كالقبلية والطائفية والقومية والدينية، التي أثبتت فشلها في توحيد المجتمعات العصرية المتنوعة المختلفة الأطياف، كثيراً ما يتحدث السياسيون والمفكرون المعاصرون عن مصطلح فكري جديد يسمى «الإنسانية» على أنه إطار عام، لا يختلف اثنان عليه، قادر على توحيد أفراد وأطياف المجتمع الواحد المختلفين فكرياً وعقائدياً، ويكون مقياساً أساسياً لمدى عدالة وكفاءة القرارات والتشريعات الاجتماعية والسياسية. ولكن، في ظل الاكتشافات العلمية الراهنة، التي تؤكد وحدة الوجود والطبيعة، فإن الإنسانية تكون مصطلحاً عنصرياً نوعاً ما لا يختلف عن بقية المصطلحات التي اخترعها الإنسان، والتي تصب في النهاية في مصلحته الخاصة وتتجاهل بقية أجزاء الطبيعة الأم. إن اتخاذ الإنسانية محورا عاما للتشريعات ربما يكون شيئاً جميلاً لأول وهلة، ولكن تحت قناع هذا المصطلح المزخرف يكمن وجه قبيح أشد خطراً من المصطلحات العنصرية الأخرى.

فالإنسانية مصطلح يهدف إلى توحيد أفراد جنس الإنسان تحت لواء واحد وشامل، ولكن في المقابل يعزلهم ويفصلهم عن بقية عناصر الطبيعة كالحيوانات والنباتات وما شابهها، وهذا الفصل هو مصدر أغلبية ما نسميه بالأفعال غير الأخلاقية (الشرية) التي يمارسها الإنسان.

إن الإنسانية كلمة تؤدي في العقل، بطريقة غير واعية، إلى تقديس عنصر الإنسان وجعله في مرتبه أرقى وأرفع من بقية العناصر والمخلوقات. وهذا التقديس يبني حائطاً عازلاً بين الإنسان وبين تلك المخلوقات والعناصر، فيخوله ذلك من استخدامهم وجعلهم أدوات ووسائل تصب في مصلحته ومصلحة بني جنسه. هنا... تبدأ اللامبالاة في التعامل معها، فيختل توازن ما نسميه بعناصر الخير والشر التي هي عمود فقري لاستمرارية دورة الحياة في هذا الكون.

وبما أن الطبيعة أقوى وأشمل من أجزائها التي من ضمنها الإنسان، تجدها تصدر لنا حلولاً شمولية ربما يعتبرها الإنسان بالنسبة إليه «شريّة»، كالتغيير المفاجئ لدرجات الحرارة والفيضانات والأعاصير والزلازل والبراكين والحروب والمجاعات والأوبئة، التي هدفها الأساسي هو إعادة التوازن ما بين مكونات وأجزاء الطبيعة.

عندما يكون الإنسان مؤمناً باتساقه مع الطبيعة نجده يحذر من إيذاء أي عنصر من عناصرها، حيواناً كان أم نباتاً أو إنسانا، لأنه يعرف تماماً أنه مرتبط معها، وأن إيذاء أجزائها من إيذائه، وظلم عناصرها من ظلمه، فتجده، على سبيل المثال لا يقتلع الأشجار والنبات عشوائياً لأنه يعرف ارتباط هذا العمل، بصورة غير مباشرة، بتغير درجة حرارة المناخ على الأرض، التي حتماً ستؤثر بدورها في نفسيته وإنتاجيته. تجد الإنسان المؤمن بأهمية الطبيعة يتورع في قتل أي نوع من أنواع الحيوانات بطريقة غير تقديرية، لأنه يعرف أن لكل نوع، مهما كان حجمه، وظيفة كونية تصب في النهاية في مصلحة كل أجزاء الطبيعة بما فيها الإنسان نفسه. تجد المؤمن بمكونات الكون لا يؤذي أخاه الإنسان لأنه يعلم أن ايذاءه أحد أفراد جنسه يؤدي إلى إيذاء الجميع، فالإنسان المؤمن بوحدة الوجود يعلم أنه عندما يظلم إنساناً آخر، يكون الرد على هذا التعدي من خلال تسخير غرائز أولية عند الإنسان المظلوم كالثأر والغيرة والحسد والحقد والكراهية التي عادة ما تؤدي إلى إثارة التقاتل والتحارب والتحدي، مصطلحات ينفر منها الإنسان نفسه، لكن هدفها هو إعادة التوازن بين أفراد بني البشر المختلفين.

لكي نكون أكثر عدالة كمفكرين وسياسيين واجتماعيين يجب أن ننادي إلى مصطلح وفكر أكثر عدالة وشمولية لأجزاء الكون كلها. وهذا المصطلح هو «الكونية» أو «البيئية»أو «الناتشراليزم»، فهذه المصطلحات تحوي كل ما أنتجته الطبيعة من مكونات وكائنات، فتختفي العنصرية تماماً. من هذا المنطلق يتعلل لنا سمو رسالة أشخاص سياسيين كـ«آل غور» أو «غورباشوف» أو أي شخص ينادي لحماية البيئة، فهؤلاء لا يتكلمون عن البيئة حمايةً للبيئة فحسب، بل إنهم يجدون في الدعوة إلى حمايتها نظاماً أخلاقياً سامياً يتعدى المسميات الإنسانية العنصرية. بالنسبة إليهم الإيمان بوحدة أجزاء الطبيعة كفيل بإنتاج أفراد عادلين غير عنصريين. من هذا المنطلق أنا أقول... لا للإنسانية العنصرية، ونعم للكونية الشاملة العادلة.

* أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الكويت

back to top