من قتل آدم؟!

نشر في 01-11-2007
آخر تحديث 01-11-2007 | 00:00
 د. عبدالمطلب فيصل البلام كان هناك طفل اسمه آدم، ولد كباقي الأطفال مدفوعاً بغريزة الفضول والخوض في المجهول، تلك الغريزة التي كانت دائماً ما تجذبه إلى معرفة معنى عناصر البيئة التي تحيط به، وكيفية التعامل مع ما تستقبله حواسّه من ماديّات، فتجده دائماً قريباً من الطبيعة، يلاحق الحشرات ويلامس النباتات، يتمعّنُ في النجوم والكواكب، ويدقّق في التفاصيل غير المألوفة، ويتساءل عن أمور لا يعيرها البالغون عادةً اهتماماً.

غريزة الفضول أدّت بآدم إلى اكتشاف الكثير مما يجهله، وجعلته يبتدع حلولاً عظيمةً لما يتساءل به عقله الصغير، فانعكس حُبّ الفضول إيجاباً على أدائه في المدرسة، فصار محطَّ أنظار مدرّسِيه وأملهم في تغيير واقع جيله. لكن للأسف... كانت هناك ناحية سلبية ناتجة عن غريزة الفضول لدى آدم. فكثيراً ما كان يؤذي جسده نتيجة خوضه في طرق خطرة وتجربته حلولاً مجهولة.

بالنسبة لأبوي آدم، اكتشافُ ولدِهِما جواباً ما أو وصولُه إلى حلٍّ إبداعيٍّ بنفسه شيءٌ مهمٌّ وجميلٌ، ولكن... ليس بأهم من سلامة ولديهما الجسديّة، فمع كثرة وقوعه في الأخطار، قرّرا أن يعطياه ويلقّناه أجوبةً وحلولاً تثير فضوله، وفي الوقت نفسه... وضعا من حوله دوائرَ حمراءَ منعاه من تجاوزها، حتى لا يؤذي جسدَه أو جسدَ مَنْ حولَه. وفي أحيان نادرة، كانا يؤنبانه نفسياً أو يعاقبانه جسدياً حتى يردعاه عن كسر الدوائر الحمراء والخوض في المجهول الخطر.

مع مرور الزمن وكثرة الحلول الجاهزة والدوائر الحمراء والعقاب النفسي والجسدي... اختفت غريزة الفضول تدريجياً عند آدم، وأصبحت حلوله وأجوبته نسخاً مكررة لحلول أبويه، فخمل عقلُه وانتهت سمةُ الإبداع والابتكار في شخصيته، وصار مثلُه مثلَ باقي طلبة المدرسة يردّد من غير تشكيك ما يقال له في الفصل والبيت. وبعد غفلة ليست بقصيرة استيقظ كل من حوله، بمن فيهم أبواه ليتساءلوا: من يا ترى قتل آدم الذي نعرفه؟! من قتل ذلك الفضول الجميل؟! من قتل تلك الدهشة المستمرة؟!

انتهت القصة.

نعم، مثلما قتل أبوا آدم غريزة الفضول عند ولدهما بصورة غير مباشرة... قتلت ومازالت تقتل الدساتير المقدّسة الثابتة عند بعض المجتمعات غريزة الخوض في المجهول واكتشاف الحلول البديلة والجديدة، فهي من باب توفير الأمن والسلامة لمجتمعاتها، أعطتها أجوبةً وحلولاً لأغلب مشاكل الحياة وألغازها، وفرضت على أفرادها خطوطاً حمراءَ لا يتجاوزونها حتى لا يؤذوا أنفسَهم أو يؤذوا مَنْ حولَهم. النتيجة.. أجساد آمنة تحوي عقولاً خاملة، عقولاً تكرر لا تجدّد، عقولاً تقلّد لا تبدع.

قبل ثلاثمئة سنة انتبه الغرب إلى هذا الخطر الخفي الذي شلّ مجتمعاتهم قرابة أربعة عشر قرناً، فقرر أن يتخلص من قدسيّة دساتيره وثباتها، فقلل من وطأة سلطته على الأجساد والعقول، وحرر نظامه التعليمي من الأجوبة والحلول الجاهزة. وشجّع أولياء الأمور على توسيع نطاق الدوائر الحمراء حول أطفالهم ومراهقيهم قدر ما استطاعوا، حتى يمكّنوهم من الخوض في المجهول بصورة أوسع، ويبتكروا حلولاً خاصة بهم متأقلمة مع زمنهم ومكانهم.

منذ ذلك الوقت، تحول العقل الغربي من مكان تخزّن فيه المعلومات إلى مكان تختبر وتخلط فيه معطيات الطبيعة، فبدأت إنتاجات النهضة الصناعية وابتكاراتها وتلتها التكنولوجية ومن بعدها المعلوماتية. والله أعلم إلى أين هم متجهون، لا يوجد في هذه المجتمعات حلٌّ ثابتٌ مقدسٌ، فجميع الحلول قابلة للتغيير والتجديد والدحض، فالفضول والشك هما الوقود الأساسي للتقدم والتطور المستمر.

أما أغلبية المجتمعات العربية والإسلامية فهي مازالت، ومنذ قرون، تعيش في ظلّ دساتير مقدّسة ثابتة ونظم تربوية تعليمية وأسرية تابعة لها، مشابهة لأنظمة وقوانين أبوي آدم، دساتير مليئة بحلول وأجوبة جاهزة، دساتير جعلت عقول أفراد هذه المجتمعات تعمل كالمكتبات... لتخزين المعلومات فقط، بالضبط كعقل صديقنا آدم... عفواً صديقنا آدم بعد أن تم وأد الفضول فيه.

* أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الكويت

back to top