رائحة الحريق

نشر في 17-04-2016
آخر تحديث 17-04-2016 | 08:38
 نديم قطيش لا ينطوي القول، إن الحرب الأميركية لإطاحة نظام صدام حسين أكثر حروب العالم تغييراً على مستوى أهدافها السياسية، على كثير من المبالغة. فالحرب التي بدأت سعياً إلى تدمير برنامج بغداد النووي بعد العثور عليه، صارت حرباً قيمية أيديولوجية لزرع الديموقراطية في قلب العالم الإسلامي، قبل أن تصير حرباً ضد الإرهاب يوجب الانتصار فيها الرجوع الى التحالف مع «الاعتدال الإسلامي» (السعودية ومصر !!!) ضد التطرف، لتصل في حلقتها الأخيرة الى حرب «مانعة» لانفجار الحروب البينية في طول وعرض الشرق الأوسط الكبير.

يتضح تبلور هذا الهدف السياسي المستجد للمشروع العسكري الأميركي المربك في المنطقة، أكثر ما يتضح في تركيا اليوم. فالسعي الأميركي حثيث إلى منع انفجار آخر بقع الاستقرار النسبي في العراق، أي إقليم كردستان، إذا ما صدقت معظم توقعات المراقبين وشنت أنقرة عملاً عسكرياً واسعاً في شمال العراق، في سياق الحرب المفتوحة منذ العام 1984 مع حزب العمال الكردستاني ذي الأجندة القومية الانفصالية. كما أن لعملية كهذه تداعيات داخل تركيا نفسها حيث يعيش 15 مليون كردي، وعلى اكراد إيران الذين تنشط الاستخبارات السياسية والعسكرية الأميركية في أوساطهم لخلخلة نظام الملالي من الداخل على ما تشير تقارير عدة.

عملية كهذه أيضاً، تخل بتوازنات التحالفات الأميركية المتصلة بالمشروع العراقي. فعلى الرغم من أن واشنطن كما الاتحاد الأوروبي تصنف حزب العمال الكردستاني ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، إلا أنه تصنيف لم يعد يصمد كثيراً أمام متغيرات الصعود الكردي في معادلات الشرق الأوسط بعد سقوط نظام صدام حسين وترؤس الكردي، جلال طالباني، واحدة من أهم دول المنطقة ضمن معادلة عراقية موالية لواشنطن. كما أن العين الأميركية العمياء التي غالباً ما نظرت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة الى العمليات التركية ضد حزب العمال الكردستاني فقدت مبرراتها السابقة حين كانت هذه الضربات «مغفورة» لأنها تطال تنظيماً «سوفياتياً» مشاكساً. ثم ان أكراد العراق الذين انتزعوا عملياً اولى حلقات «الكيان الكردي» معنيون أكثر من أي وقت مضى بالدفاع عن «مواطنيهم» ولن يقف مقاتلو البشمركة مكتوفي الأيدي أمام أي عملية تركية ضدهم.

إذ ذاك ستجد واشنطن نفسها أمام احتراب دموي بين حليفين بارزين لها وأمام اضطراب كبير وجديد في منطقة ذات أهمية استراتيجية لعملياتها في العراق وأفغانستان (وإيران؟؟) بالإضافة الى انتقال المصالح الإيرانية التركية المشتركة في الملف الكردي من مصالح موضوعية الى تحالف فعلي يزيد عدد الأوراق في يد طهران في سياق المواجهة المفتوحة بينها وبين واشنطن.

وما يقلق واشنطن من جدية احتمال هذا الانفجار، ان الأزمة الأمنية على الحدود الشمالية الشرقية لتركيا تتزامن، مع أخرى سياسية داخلية هي الأقوى منذ زمن بعيد، بين حزب العدالة والتنمية الإسلامي وبين المؤسسة العسكرية، حامية التراث العلماني الأتاتوركي، تطال هوية تركيا ومستقبلها العلماني وحدود «الأسلمة» المسموح بها. فحزب العدالة والتنمية دعا الى انتخابات مبكرة في 22 يوليو المقبل بهدف تنفيس الأزمة الناتجة عن تحرك الهيئات الدستورية مدعومة من العسكر وتعطيل نصاب انتخاب رئيس للجمهورية من حزب ذي صفة إسلامية، بمعزل عن مستوى الاعتدال أو التمايز عن سائر الإسلام السياسي. وفيما تحاول المؤسسة العسكرية والقطاع العلماني العريض في المجتمع السياسي التركي ضمان إضعاف حزب العدالة والتنمية تخشى واشنطن أن يسعى الجيش الى عملية ضد الأكراد يظهر من خلالها بمظهر الحاسم والقادر على حماية البلاد في مواجهة «نعومة» ردود حكومة رجب طيب أردوغان على الرغم من تأييده اللفظي حتى الآن لعملية عسكرية.

والحال، فإن الأسباب الأمنية والسياسية التركية لعملية ضد حزب العمال الكردستاني، تنطوي على عمل حربي ضد العراق، آخذة في التبلور فيما يبقى على واشنطن أن تجتهد في البحث عن بدائل لرائحة الحريق التي تملأ هواء الشرق الأوسط الكبير.

back to top